الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 23rd February,2004 العدد : 47

الأثنين 3 ,محرم 1425

مساقات
الشفاهية الكتابية!
د. عبدالله الفيفي

الشاعر الأشهر بلقبه الدال على اتصاف شعره بالموسيقية هو (الأعشى، ميمون بن قيس، ت.629م)، الملقّب ب (صنّاجة العرب). و(الصَّنْج) في بعض اللهجات هو: الصّمَم، وكأن الصنّاجة سمي بهذا لأنه يصمّ الآذان بصخب شعره. وتُجمع المعاجم العربية على أن «الصَّنْج» هو آلة موسيقية. ويشيرون إلى نوعين: نوع يتخذ من صُفْر يضرب أحدهما بالآخر مع النفخ في البوق، وآخر ذو أوتار يلعب به، واللاعب به يقال له:«الصَّناج والصنََّاجة»
. وكذلك تتواتر الإشارات إلى أن الأعشى اكتسب لقبه هذا للخاصية الغنائية التي يتصف بها شعره، فضلاً عن ارتباط حياته نفسها وشعره بمجالس الأنس والغناء. وقد قيل: إنه لُقّب ب (اسْرُوذْكويذ تازي)، أي: (مغني العرب)، في بلاط كسرى، وقد سمعه يوماً ينشد شعره. وما علينا في هذا ما إذا صحت الرواية في أن ملك الفرس هو الذي لقب الصنََّاجة، أو كان لقباً عربياً قحاً، منح الشهادة الفارسية تعزيزاً للولاء العربي إذ ذاك لحضارة فارس.
المهم أن من يقرأ ديوان الأعشى يلمس ما لمسه ملقبوه من الموسيقى الشعرية الداخلية والخارجية. وكل هذا جليّ مشهور، إلا أن لقب الصنَّاجة لم ينج بدوره من قول القائل: إنه إنما لقب الأعشى به لذكره كلمة (صنّاجة( في شعره. وهو ما يشكّك في هذه الطريقة من التعليل التي درج عليها القدماء، حين يلتمسون لفظة من شعر الشاعر ليعلّلوا بها لقبه. وأي لقب لا يمكن أن يجدوا مادته في شعر صاحبه؟!
على أنه من البيّن أن ملقّبي الأعشى قد وجدوا لديه ما يتجاوز خاصية (الهلهلة الصوتية) في شعر (مهلهل)؛ ذلك أن البيئة التي كان يعايشها الأعشى متتبعاً مجالس اللذات والطَّرب داخل الجزيرة وخارجها، محتكًّا بالمناخات الحضارية السائدة في زمنه قد أكسبته لغة حضارية يسودها الطابع الموسيقي الغنائي. لذا فصفة (الصنَّاجة) في تقييمهم تمثل درجة أعلى من صفة (مهلهل) في إشاريّتها إلى الخاصية الموسيقية الشعرية. لكن اللقبين كليهما دالان على أن مهوى أفئدة التلقّي عند العرب ينصرف إلى الصوت أكثر من الدلالة. وهذا ما مسه تحول نسبي في العصور الإسلامية، كما تشير مقولة (المعرّي) فيلسوف الشعراء عن شعر ابن هانىء الأندلسي حينما وصفه بأنه: «رحىً تطحن قروناً»، وإن لم يكن حكم المعري هذا لوجه النقد الخالص على كل حال، وإنما لعدم إعجابه بصوت الرحى الأندلسية مقارنة بالرحىَ المشرقية، والتعصب العرقي والإقليمي عريق في بني يعرب!
وهكذا تميل الثقافة الشفاهية إلى المستوى الصوتي من النص بخلاف الثقافة الكتابية. ومع أن الأولى قد بقيت لها السيطرة على الثقافة العربية السائدة إلى اليوم، إلا أن مؤشرات على مزاحمة الأخرى (الكتابية) لها كانت قد ظهرت منذ الجاهلية. يدل على هذا أن تجد لدى العرب من الألقاب المتعلقة بالقوافي لقب (الذائد)، وهو لقب (لامرىء القيس، ت.542م)، يتداخل فيه عامل استطراف التعبير الشعري بعامل تصوير اللحظة الشعرية، حينما تنثال على الشاعر قوافيه، إذ عبر عن ذلك امرؤ القيس بقوله:
أذود القوافي عنّي ذيادا
ذيادَ غُلام جريء جوادا
فلمّا كثرن وعنّينه
تخيّر منهن ستًّا جيادا
فأعزلُ مرجانها جانباً
وآخذ من درّها المستجادا
فمع أنه يكمن وراء تلقيب امرىء القيس بلقب (الذائد) استطرافهم تصويره هذا لعملية ذود القوافي وهي تتوارد عليه توارد الإبل العِطاش فقد عبر لقبه أيضا عن أن الشاعر الحق لا يستدعي قوافيه ولا يتصنّعها، بل هي التي تستدعي موهبته وتصنع اسمه ولقبه. والتقفية في الشعر العربي ذات طبيعة إيقاعية نفسية شعرية، لا يملكها إلا الشاعر الموهوب، لا الناظم المتكلف. وعلى محكّها ينكشف شأن الشاعر من الناظم. وإذا كان لقب (الذائد( قد تُوّج به امرؤ القيس الموصوف بأنه سابق الشعراء، خَسَفَ لهم عين الشعر، وأنه أول من فتح الشعر فتبعوا أثره، حسبما يورد (ابن سلام الجمحيّ) و (ابن قتيبة) فإن هذا اللقب يبرز الكيفية الخاصة لإنتاج النص الشعري بين مكوّني الطبع والصنعة، بين اللحظة التجريبية الأولى، التي تتنزل على الشاعر فيها اللغة الشعرية، واللحظات اللاحقة التي يضطر فيها إلى أن يعمل ملكته التحريرية النقدية، ليذود تلك الغزارة من غثّ القوافي وسمينها عنه، كي يعزل مرجانها عن درها، ومن ثم يصطفي من كثرتها بضع قوافٍ جياد.
إن هذه التجربة التي تلخص أبياتُ امرىء القيس معاناتها لتختصر تجربة الخلق الشعريّ لدى الشاعر، والشاعر ناقد بالفطرة.
وهي إذ تعكس وصفاً ذاتياًّ للإجراء الشعري لدى امرىء القيس كي تقدّم رؤية عمومية، لما ينبغي لكل شاعر أن يخوضه من معاناة لا ترضى من الشعر بأول خاطر، بل تنشغل بنقد العمل وتمحيصه، حتى يصل إلى سدّة الجودة والإتقان الفني. والعبرة في هذه العملية ليس بطول النص وكثرة القوافي، أو بتقصيد القصائد المهلهلة، فعل المهلهل بن ربيعة، ولكن بالمنتخب الجيد منها.
وتلك قضية أوغل النقاد جَدَلاً حولها فيما بعد، في «باب المطبوع والمصنوع»، جدلاً يستقي جذوره من تلك الرؤية القديمة إلى طبيعة الخَلْق الشعري وعمل الشاعر في إنتاج النص. وهي رؤية تنم عن وعي مبكّر في الشعر العربي بالمعادلة الدقيقة بين الطبع والصنعة، التي ينبغي أن تسفر نتيجتها عن توازن بين اللحظة الشعرية واللحظة النقدية عند الشاعر. وهي تنمّ كذلك عن وعي كتابي، يتّفق وما يمكن أن يتوقّع في ثقافة شاعر أمير كامرىء القيس. فهذه الانتقائية الحصيفة للقوافي التي تصورها أبياته هي على الأرجح نتاج عقلية كتابية لا عقلية شفاهية. ذلك أن الشعر الشفاهي أميل إلى أن يكون وليد اللحظة الانفعالية، الجماهيرية، ونتاجه خليط من الدرّ والمرجان، والاستكثار من القوافي، بلا تمحيص، ولا اصطفاء، ولا ايجاز.
ولئن كانت دلالة لقب (الذائد) تتشعّب هكذا في ضروب القضايا الشعرية المختلفة، فلأنه لقب يرتكز على جَرَس الشعر العربي الأول، ألا وهو (القوافي) على أن مصطلح (القافية( لا يعني في هذا السياق مجرد الجزء الأخير من الأبيات الذي يبدأ من أول متحرك قبل ساكنين وإنما يشمل النص كله، من باب تسمية الكل باسم الجزء. فالقوافي تعني الأبيات. واتخاذها إشارة إلى الأبيات دليل على مركزيتها في البنية الشعرية العربية من جهة بوصفها مرتكز النغم في البيت، ورابط الوحدة الصوتية والدلالية في كامل النص ومن جهة أخرى دليل على أهميتها الخاصة لقرع جَرَس الشعر الأول لدى الشاعر العربي، الذي يستدعي لديه لحظات أخرى من الذَّود والعزل والاختيار. ولقد كان تقليد امرىء القيس بلقب (الذائد) بمثابة شهادة استحقاق من متلقّيه بامتيازه فعلاً في ترويض قوافيه، لتصبح ذات ريادة مفتاحية في تاريخ الشعر العربي. (وللحديث اتصال).
* مقام:
فرُبَّ قصيدةٍ قصدتْ لواءً
ورُبِّ قصيدة فتحُ الفُتُوْح!

aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved