الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th April,2006 العدد : 150

الأثنين 26 ,ربيع الاول 1427

تراحيب المطر!!

*د.صالح زيَّاد :
هطلت الأمطار الغزيرة على منطقة الباحة، لحظة قدوم الوفد الأكاديمي من قسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود إليها ولحظة مغادرته. وكانت الأمطار التي روت الأرض وبللت ملابس الزملاء مقترنة بالتراحيب والوداعيات التي لا ينفك المطر عنها في لغة المنطقة، سواء بصيغ التقرير التي يحل الضيف فيها محل المطر، فتسمع - أنت الضيف - ما يغيِّر صورة ذاتك في وعيك بالقدر الذي تحمله معاني المطر من رضا وخصب وفأل، وفي تكرار ودود: (مرحبا تراحيب المطر) (مرحبا هيل عد السيل)!!. أو بصيغ الدعاء والطلب التي يلهج بها الضيف مودعاً: (الله يعقبنا عليكم بالسيل)!!.
ولا تقتصر علاقة الباحة بالمطر على عبارات الترحيب بالضيوف، بل تشيع في مناسبات أخرى خصوصاً ما يمتلئ به الفولكلور في المنطقة بصيغه المختلفة ومنها قصائد العرضة التي تصدح حناجر شعرائها بطروقهم الآسرة مستمطرة السماء ومشوقة إلى لمع البروق ودوي الرعود، حتى ليغدو المطر بلوازمه متكأ جَمْعياً للقصائد الشعبية إلى درجة مألوفة ومعتادة. كما يبرز المطر في تسمية قبائل المنطقة للرجال والنساء فهذا (مطر) وتلك (مطرة)، وهناك غير أسرة من ذوي العراقة في غامد وزهران، في تهامة والسراة والبادية، باسم (آل مطر).
الباحة معتدلة المناخ وتميل إلى البرودة معظم العام. جبالها - غالباً - مكسوة بأشجار العرعر والعتم والشث الدائمة الخضرة، وأوديتها بساتين فيحاء مورقة بأشجار الموز والكادي والبُن في تهامة والرمان والتفاح والعنب واللوز في السراة. هنا يتساءل المرء - باستغراب - عن هذه اللغة اللفظية المعبرة عن علاقة ملحاحة لأهلها بالمطر؟!!. ما الذي تركه الأهلون في الباحة للصحاري القائظة؟!.
زميلنا الدكتور فالح العجمي بدا أنه يرى بنية مرآوية لعلاقة الباحة بالمطر، إنها ليست بنية فقد وحرمان بل علاقة وجود وتفاعل. علاقة حميمة. لقد عبر العجمي في كلمة الوفد أمام سمو أمير المنطقة عن المفارقة بين الخيال في تصوره للمنطقة والواقع بعد أن رآها. فذكر أنه نشأ في حي يسكنه عديد من عمال آرامكو وفيهم عدد من أبناء منطقة الباحة، وكانت أسماء: مفرِّح الزهراني ومسفر الغامدي ومُعجِب وفَرْحَة وعطية... إلخ تثير استغرابه؛ لأنه اعتقد أن من سمَّاها كان مفرطاً في التفاؤل، ولكنه بعد أن رأى المنطقة اطمأن إلى صلة تلك الأسماء بأرض تبعث الفرح، وتشرق بالسعادة، وترف بما يعجب!!.
العلاقة بين الأسماء والمنطقة - فيما أشار إليه فالح العجمي - هي العلاقة بين اللغة أو الثقافة عموماً والمكان، فالثقافة - دوماً - وجود الإنسان الذي يبنيه جَمْعِياً. إنها (بيت الكائن) بتعبير أوسبنسكي، وهي - من ثم - عملية خلق مستمر للمحيط لاجتماعي من بنيها في مكان مخصوص ، بحيث يستحيل هذا المكان بمدركاته من عالم مفتوح إلى إطار مقفل تحدده التسمية والأعراف والتقاليد، فتغدو الثقافة ظاهرة اجتماعية لا مجال للبصر بها في عراء المكان والزمان، ولا في صفة عالمية.
وبوسعنا أن نقرأ في أسماء الإعلام تلك جانب التعدية الذي يجاوز، بفعلية الصفة التي تحملها، فردية المسمَّى بها إلى من حوله، حتى لو ورد الاسم بغير صيغة اسم الفاعل المتعدي إلى مفعول. ومن المؤكد أن نظام التسمية يحمل في عمقه من دلالات الثقافة في صفتها الاجتماعية خصوصيات متنوعة تصلح مادة لدرس سيميولوجي وسوسيلوجي قيِّم خصوصاً في ضوء ما استجد على نظام التسمية في بيئاتنا السعودية المختلفة في السنوات الأخيرة من محو لذاكرة التنوع والتمايز والدوران في فضاء متشابه من الأسماء الجديدة.
ولا تختلف - في منطقة الباحة - فنون الفولكلور بإيقاعات رقصها وتنوع (شيلات) القصائد فيها، وعروض الأطعمة وأطباقها المختلفة، في الاحتشاد بها من أجل الضيف، عن التراحيب وعباراتها المكرورة، بوصف ذلك كله نظام ثقافي لتمظهر كرنفالي مبطن بدلالات الذات الاجتماعية في بحثها عن الامتياز والتماسك. كانت العرضة أو ألوان فلكلورية أخرى في استقبال زملائنا الأكاديميين أو لوداعهم في كلية المعلمين، وفي محافظة (المندق)، ثم كانت ليلةٌ لسهر العرضة والمسحباني والمجالسي في حفل جمعية الثقافة والفنون بصالة الألعاب بالاستاد الرياضي. وكان على الضيوف أن يخرجوا من تضاريس أجسادهم استجابة لاحتدام الإيقاع الجنوبي المخفور بحنين الشمس وشعاعها الطازج في صوت الشاعر الشاب أحمد الدرمحي.
وكانت صحاف العيش الغارقة في السمن والعسل، وخبز الملة الممهور بالتعب وابتسامة الكرم الفياضة، وأرغفة الدخن، وحليب الخلفات، وباقات الريحان والكادي، في سماط ممتد ببهجة اللحظة ودهشتها لدى أحمد زربان في محافظة المخواة، وغرم الله الصقاعي في بني كبير، ويحيى مرضي في الباهر.هذا غير موائد كبرى أقامها كل من: النادي الأدبي - بتشريف الأمير محمد بن سعود أمير المنطقة - وعبد العزيز بالرقوش محافظ المندق، ومحمد السديري محافظ بلجرشي، والدكتور سعيد أبو عالي، وجمعية الثقافة والفنون، وعبد الله الأفندي. ويبدو أن من لوازم الضيافة أن يعرف الضيف مضيفه، فالضيافة تأشير على نبل الذات وألمعيتها. وهنا تجرد أهلونا في الباحة للوقوف بضيوفهم على التأريخ، من خلال أبرز الأماكن والآثار في المنطقة التي اقترنت ببطولة إعلام أو أفكار حفظت الذاكرة التراثية سيرتها وأشاعتها في العالم، وما يزال أبناء غامد وزهران يرون فيها علامات دالة على العراقة والامتداد، وعلامات على نموذجية من الفعل الإنساني العصي بأكثر من معنى!!.
كأن التأريخ، هنا، في مداه القريب والبعيد، عُمْق لذلك الحس الكرنفالي بدلالات الذات الثقافية، يضاعف امتيازها وتماسكها ويوسع مساحته في الوعي. فمضت الركائب إلى وادي (بيدة) إذ المواضع التي ذكرها الشاعر الجاهلي الشنفرى لا تزال بأسمائها الموغلة في القدم، وهناك طال مقامنا باستفاضة الكلام في سيرة الشاعر والتساؤل والاستزادة التي حرص بعض الزملاء عليها، فلم يتسع الوقت لاستفاضة أكثر حين وصلنا إلى (دوس) وفيها مواضع أكثر تشويقاً متصلة بسيرة الصحابيين: الطفيل بن عمرو وأبي هريرة (رضي الله عنهما). وكان تصرم الوقت مثيراً لغضب بعض الزملاء ولعبد الله غريب الزهراني، الرجل الذي خلبنا بدعابته وأمتعنا برفقته، خصوصاً حين سمع أحدهم ينسب الشنفرى لغامد، فقال بجديته الضاحكة: أعطوني خمسة ريالات وخذوه. وهو يشير هنا إلى تصعلك الشاعر وقطعه للطريق، لكن الباقي من الشنفرى - على أية حال - وهو شعره الخالد، لا سيما اللامية الشهيرة، نموذج خلاق للمعنى والخبرة والقيمة التي تفصح عن امتياز إنساني جدير بالتقدير.
حين عكف الزملاء - في خاتمة الرحلة - على كتابة برقيات وخطابات الشكر لسمو أمير المنطقة، ولرئيس النادي الأدبي، ولمحافظي محافظات المندق وبلجرشي والمخواة، ولمدير جمعية الثقافة والفنون، ولعميد كلية المعلمين، وللدكتور سعيد أبو عالي ويحيى مرضي وعبد الله الأفندي وغرم الله الصقاعي - كان بعض الزملاء يُطِل على جلستهم منبهاً: لا تنسوا المهندس المجهول لهذه الرحلة أحمد بن صالح السياري، وكان غيرهم يذهب في طريقه قليلاً ثم ينعطف فجأة عائداً إليهم وهو يرفع صوته: والشيخ محمد بن مصبح وعبد الله غريب وسعيد منسي وجمعان عبد الكريم وعبد الله الشاعر.
ثم هطل المطر...


Zayyad62@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved