Culture Magazine Monday  24/09/2007 G Issue 217
فضاءات
الأثنين 12 ,رمضان 1428   العدد  217
 

مساقات
جَرْشُ اللغة!
د.عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

 

عرضتُ في المساق السابق ما أشار إليه القارئ عبد العزيز في رسالته إليّ من تردّي حالنا اللغويّة والثقافيّة، وتفشّي العاميّة والدفاع عنها عبر التقنيات الحديثة بشكلٍ لم يسبق له مثيل. وليس بخافٍ - في هذا الإطار - أن كثيراً من إعلاميينا، ومعلّمي مدارسنا، بل بعض أساتذة جامعاتنا، وفي مجال اللغة العربية نفسها، هم شعراء شعبيّون أو شعراء نبط بالأصالة، منغمسون في الحركة العاميّة، منافحون عنها، منظّرون لأدبها، مساهمون في مشروعها التاريخيّ الواسع، بولاء راسخ غالباً، فطرةً، واكتساباً، أو مداهنة، وتسليماً للضغوط الاجتماعية، التي يصعب أن تُنتزع من النفوس أو تُنازَع!

وكما أشار القارئ الكريم فقد استبدل إعلامنا في السنوات الأخيرة ببرامج الأطفال التي كانت تستعمل اللغة الفصحى، كبرنامج «افتح يا سمسم»، مثلاً، برامج سمجة المحتوى واللغة، تُقدّم للأطفال باللهجات العاميّة، المصريّة، أو الكويتيّة، أو السعوديّة، أو اللبنانيّة. هذا فضلاً عن شبكة من (اللهوجة) اللغويّة عبر الفضاء و(الإنترنت)، حتى إن المتابع لبعض المواقع الخليجيّة على (الإنترنت) ليشعر اليوم بالقطيعة اللغويّة مع بعض ما يُكتب فيها، فهو وإن بدا بحروف عربيّة إلا أنه في خليط لغويّ عجيب، لا تدري أهو هنديّ أم فارسيّ أم بلهجة خليجيّة مختلطة عربيّتها بعُجمتها؟!

كما أن الأذهان العربيّة - في مثال آخر - قد تفتّقت مؤخراً عن ترجمة بعض الأفلام والمسلسلات الأجنبيّة و(دبلجتها) بالعاميّات أيضاً، بعد أن كان ذلك يتمّ بالعربيّة الفصحى في القرن الماضي! ذلك وهذا.. كأنما لكي يُغلق على الذاكرة العربيّة أي منفذٍ يمكن أن تتنفّس فيه الفصحى، بكلّ ما تعنيه الفصحى من عروبة وحضارة وإسلام! بل لقد أشرنا في مساق سابق إلى أن أمواج الإعصار قد شملت كذلك بهِباتها الدّعاةَ الدينيّين، الذين بات بعضهم يتبنّى العاميّة في خُطَبه ومواعظه عبر التلفزة أو شبكات الاتصال الحديثة، ولم يبق إذن من خطوةٍ رياديّة أمامهم إلا أن يُترجموا آيات القرآن الكريم للعامّة بلهجاتهم المحليّة؛ لأن القرآن أولى بالفهم، والجمهور لم يعد يحسن لغة الضاد ولا يطيقها ولا يستسيغها، وكفى الله المؤمنين النحو والصرف والبلاغة!

وهذه التنازلات، والتدانيات، والتبذّلات، والإسفافات العامّة المتعاقبة - حتى ممّن يعدّون في زمرة المثقّفين، وبهدف استرضاء العوامّ، واكتساب ودّهم - لم يعد لها اليوم حدّ ولا ردّ. وقد أضحى دور المثقف، بدل أن يكون الرائد في أهله، لرفع وعي الجماهير، والسموّ بذائقتهم عن واقعها البدائي البسيط، أن يمدّ صفحة عنقه لتمتطيه الجماهير، ويهبط بذوقه إلى حضيض الدهماء، إنْ كان له من ذوق يرتفع شيئاً عن أذواقهم أصلاً.. ثم لا يبعد أن يَحتبي بعدئذٍ كي يُنظّر لروائع واقعٍ متخلّف، ويحلّل جمالياته الخارقة، باسم التراث والمأثور وفرائد (الفلكلور)!

إن العربيّة الفصحى نفسها قد مرّت بمراحل تطوّر عبر عصورها، وما زالت، ويجب أن تستمرّ، فلغةٌ لا تتطور تَضْمُر، فتَجْمُد، فتموت. غير أن التطوّر الصحيّ معنى غير التغيّر المرضيّ، أو الانحراف عن جهل، أو التخلخل المعزول عن البنية الأصليّة، التي تمثّل نسغ الارتباط الحيويّ بالماضي والحاضر والمستقبل في أي لُغة إنسانيّة حيّة. أمّا العاميّة فشذوذ، نجم لأسباب تاريخيّة معروفة، لا هي ذات أصل مستقل عن الفُصحى، ولا هي قابلة للتطوّر الذاتي، اللهم باتجاه العودة إلى الفُصحى، أو الاستمرار في تيهها الطويل وتشظّيها المطّرد، الذي لا يُهدّد الفُصحى فحسب، ولكن يُهدّد العاميّات أيضاً، وبخاصة أدبها الضائع بلا هويّة ولا انتماء، مقطوعاً من شجرة العربيّة، لا إليها ولا إلى غيرها، وتلك خسارة لأدبٍ لا يخلو - من الناحية الفنيّة - من جمال.

أمّا البلاغيّة في حدّ ذاتها، معزولة عن قواعد اللغة، فهي موجودة في كل لغة، حتى في لغة النحل والطير، فيها أشياء من جمال وبلاغة على نحو من الأنحاء، ولكل لغة نحو! كما أن الشعريّة قائمة بخصائصها في كل اللغات البشريّة، لغة الهنود الحمر، ولغة التبت، والواق واق! أفتلك حُجج يدلي بها المُدْلُون من المشغوفين بذلك الشعر، والمحسوبين عليه، والمسوّغين لانتشار لغته، حين لا يملكون أنفسهم ولا حريّة التجرّد من العاطفة في الحُكْم؟!

ثم إن وظيفة الشعر ليست جمالية صِرف، بل هي كذلك، وقبل ذلك وفي أثنائه وبعده، وظيفة لُغويّة ثقافيّة قوميّة. وقضية الشعريّة الحقّة هي أن يستمدّ الشعر من أصوله امتداداته الأرحب وأَوْجَ ارتقاءاته الأسمى، لغةً وفكراً، وأن يكون حلقة وصلٍ بين التراث والحاضر والقادم. ولذلك فإن من العجز أن لا يهفو شاعرٌ إلى لغةٍ أرقى من لغة الحياة اليوميّة المبتذلة، ولا يطمح إلى أن يصل بكلمته عبر المكان والزمان إلى كل من نطق لغته الأُمّ، وأن لا يُسهم في خدمة ثقافته ولغته بشيء، ناهيك عن أن يكون ضالعاً - درى أو لم يدر - في تشتيت شملها، وتمزيق أصلها، وتمييع نظامها، ومزاحمة حضورها الفاعل، تحت أي شعار أو عاطفة أو ضوء.

ونحن نعلم أن اختلاف اللهجات العربيّة ليس بالجديد، وإنما تركة ثقيلة من انقسام اجتماعيّ وتَعازُل، وهذا ابن حزم الأندلسي (-456هـ= 1063م)، مثلاً، يشير في (الإحكام في أصول الأحكام، ج1: الباب الرابع: في كيفية ظهور اللغات، أعن توقيف أم عن اصطلاح؟) إلى: أن اللغة تبدّلت بتبدّل مساكن أهلها، فحَدَث فيها جَرْش، كالذي يحدث من الأندلسي إذا رام نغمة أهل القيروان، ومن القيروانيّ إذا رام نغمة الأندلسيّ، ومن الخراسانيّ إذا رام نغمتها. ونحن نجد من سَمِعَ لغة أهل فحص البلوط، وهي على ليلةٍ واحدة من قرطبة، كاد أن يقول إنها لغة أخرى غير لغة أهل قرطبة. وهكذا في كثير من البلاد، فإنه بمجاورة أهل البلدة بأُمّة أخرى تتبدّل لغتها تبديلاً لا يخفَى على من تأمّله. ونحن نجد العامّة قد بدّلت الألفاظ في اللغة العربيّة تبديلاً، وهو في البُعد عن أصل تلك الكلمة كلغةٍ أخرى، ولا فَرْق، فنجدهم يقولون في العنب: (العينب)، وفي السوط: (أسطوط)، وفي ثلاثة دنانير: (ثلثدا). وإذا تعرّب البربريّ، فأراد أن يقول الشجرة، قال: (السجرة)، وإذا تعرّب الجليقي، أبدل من العين والحاء هاء، فيقول: (مهمّداً)، إذا أراد أن يقول: (محمّدا)، ومثل هذا كثير. فمن تدبّر العربيّة والعبرانيّة والسريانيّة أيقن أن اختلافها إنما هو من نحو ما ذكرنا من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم، وأنها لغة واحدة في الأصل.

وعليه، فاللهجة قد تتمخّض عن لغة انفصاليّة مفارقة، واختلافها عن الأصل الجامع إنما هو من نحو ما ذكر ابن حزم من تبديل ألفاظ الناس على طول الأزمان، واختلاف البلدان ومجاورة الأمم. والمنطوق يختلف بين الناس في كل زمان ومكان، واللكنات واللهجات لا سبيل إلى التغلّب عليها في أي لغة، إلا أنه من المهمّ إدراك أنه حين يتحوّل المنطوق اللهجيّ إلى منصوصٍ مكتوب، ولاسيما الشعريّ، وحينما تتصدّر عناصر نخبويّة لتزيينه في أذهان الأجيال، فيما يوشك أن يكون دعوة إليه، وحين نأخذ في التأصيل لوجوده، والتأريخ لأطواره، والتنظير لفنّياته والتقعيد لبنياته، حينئذٍ يبدأ التأسيس للغة انفصاليّة، اعترفنا أم لم نعترف، ويطلّ الخطر الداهم على اللغة الأُمّ، التي تمثّل عامل توحيدٍ لغويّ وثقافيّ بين أبناء أي شعبٍ من الشعوب.

وبالنظر إلى واقع العربيّة غير المشرّف، لا دهشة إذن أن تُعلن منظمة اليونسكو اليوم نتيجة متوقّعة، مفادها: أن اللغة العربيّة ستنقرض بنهاية هذا القرن، ولن تعود لغة عالميّة، متراجعةً إلى مثواها - الذي نرجو (وما يغني عن الموت الرجاء!) أن لا يكون المثوى الأخير! - ذلك بعد أن عادت إليها بعض أنفاس الحياة في غرفة الإنعاش التي أُقيمت لها على عَجَل خلال القرن العشرين!

لماذا؟ لأن العرب أُمّة كثيراً ما لا تكون لما يقولون أو يفعلون مصداقيّة؛ فهم شعراء بامتياز، يقولون ما لا يفعلون، وكلام ليلهم يمحوه النهار، وما بنوه بالأمس يهدمونه اليوم، وعلى الصُّعِد كافّة.

وفي المساق الآتي نعرف: كيف؟

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

* عضو مجلس الشورى aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة