Culture Magazine Monday  25/06/2007 G Issue 204
فضاءات
الأثنين 10 ,جمادى الثانية 1428   العدد  204
 

مساقات
د. عبد الله الفَيْفي *

 

 

الضجّة التي تثار حول عملٍ ما تَرْفَع عادةً سقف التوقّعات لدى المتلقّي، بفضولٍ، أو بحسّ مسؤوليّةٍ نقديّة، كي يَحْكُم على العمل عن بيّنة. وكثيرًا ما يتكشّف النَّقْع عن قَدْر من العاطفيّة، تَحْكُم المواقف الثقافيّة العربيّة، كما تَحْكُم المواقف السياسيّة العربيّة، مع أو ضِدّ. إذ يكفي أن يُرفع شعارٌ ما لينساق وراءه قطاعٌ من جماعة (مع أو ضِدّ)، دون أن يعلموا مع مَن وضِدّ مَن؟ يكفي أن تُثار مثلاً شُبهة دينيّة أو أخلاقيّة في عملٍ، ليصطفّ أُناسٌ ضدّ ذلك العمل، وضِدّ صاحبه، بل قد يندفع منهم من يندفع إلى الفعل لا القول فقط، وعندئذٍ تقع الواقعة! كما يكفي أن يُرفع شِعار (مع المرأة) من وراء عملٍ، لتقف كثيراتٌ تأييدًا للعمل وصاحبه، وشجبًا لخصومهما! وهكذا تجري الأمور في أعنّنتها غالبًا، دون أن يُقرأ العمل، فمَن لديه الوقت هنا للقراءة؟ وإذا كان قد قرأ العملَ من نثق به ونأتمّ، فذاك يكفي! تلك عاداتنا وتقاليدنا الثقافيّة، وبها تضيع الحقوق الثقافيّة، كما تضيع بعض الحقوق الاجتماعيّة. بل تضيع حقوق الكُتّاب أنفسهم في أن يُقرؤوا بما لهم وما عليهم، حين يقابَلون فقط بالإقصاء المطلق أو التطبيل!

ويصدُق هذا على كثير من الأعمال والأعلام، ومنها رواية (ملامح) للكاتبة زينب حفني. التي لم يقف انتقادها أحيانًا عند حدود النصّ، بل تعدّاه إلى الشخص، وكأنّ قبولنا أو رفضنا يتقرّر كذلك على مرتكزات النَّسَب والأصل والفصل! مِن حق القارئ أن يختلف مع نهج الكاتبة في الإلحاح مثلاً على تفاصيل العلاقات العاطفيّة النابية عن الذوق الاجتماعي، وباعترافها هي، وفي المجاهرة بأدقّ الجزئيات، مما لا يقتضيه لا العمل الروائي، ولا البُعد الاجتماعي الذي حاولتْ أن تكشف خباياه. فلقد كان بإمكانها أن تقول كل ما شاءت دون حاجة إلى شرح ما لا يحتاج إلى شرح، والإمعان في عرض ما يُغْني الحال فيه عن المقال. مِن حقّ القارئ أن يسأل: لماذا؟ وهل الرواية لا تنبني إلا بمصادرة الذوق الأدبيّ والفطرة الاجتماعيّة السليمة، التي تنبو عن كشف السوءات، أو تطبيع النفوس على تقبّل ذلك بصدر رحب؟ ثم هل يخدم ذلك الأهداف النبيلة التي تُعلنها الكاتبةُ على الملأ، أم يتناقض معها، بحيث يُصبح جزءًا من الدعوة إلى ما تقول في نهاية المطاف إنها إنما أرادت التوعية به والتنفير منه؟ ولمَنْ يكتب الراوائيّ؟ أليس إلى أولئك الجماهير الذين رأينا حالهم؟ فأنّى لهم إذن أن يستنبطوا تلك المرامي الدلالية البعيدة التي وُظّفت التفاصيل الخادشة، بل الجارحة للحياء، من أجل بلوغها؟ ألا يرى الروائيّ أن سواد قُرّائه: مراهق، وغِرّ، وذو وعي متواضع، وليسوا من صفوة الفلاسفة والنقّاد الاجتماعيّين، ليكاشفهم بكل ما يحدث في قاع المجتمع وغرفه المغلقة؟ أم هل الهوس بإثارة ردّات الفعل الاجتماعيّة والإعلاميّة - من جهة أخرى - يشفع للعمل في مصادمته الناس؟ إن الحقّ - وهو حقٌّ - لا يتأتّى إلى دحر الباطل إلا بالتدرّج واللِّين. والتوصّلُ إلى الإصلاح لا يكون إلا بعقلانيّة، لا بتطرّف لتطرّف مضادّ، أو بإنكار منكر بطريقة أكثر نُكرًا، وقد تؤدّي إلى أنكر! ما هكذا تورد الإبل، وإلاّ فستجني على نفسها - قبل سواها - براقش!

على أن بعض الكتابات النسويّة قد تنساق إلى عكس ما تدعو إليه أيضًا، وبمكر المجتمع الذكوريّ نفسه، الذي تُظهر الثورة عليه. ومن ثَمّ تُقدّم من خلال نصوصها أسوأ صورة يمكن أن تَقْبَلها المرأة نفسها عن نفسها، إذ تَظْهَر بلا عقل، ولا ضمير، ولا وعي، ولا إنسانية! وهذا ما تقع فيه بعض أعمال حفني، وتحديدًا روايتها (ملامح). إذ بتخطّي مشروعيّة توظيف العمل الأدبيّ لبثّ هواجس خطاب إيديولوجي - يتعلّق هنا بالنسويّة، مع ما يجنيه الحماس لذلك الخطاب من استباحة كل وسيلة في سبيله، بما في ذلك تعظيم الصغائر وتصغير العظائم، كأيّ خطاب ثوريّ - فإنه يتبدّى من وراء الأكمة أن النصّ لا يخدم رسالته النبيلة التي يُعلنها؛ من حيث رَسَم للبطلة (ثُريّا) أبشع صورة لكائن إنسانيّ على الإطلاق، لا من الناحية الأخلاقية فحسب، ولكن من الناحية الذهنيّة كذلك! وفي ذلك أكبر تشويه لعقليّة المرأة وشخصيّتها! فلقد صُوّرت ثُريّا ضحيّةً سهلة لأطماعها، ثم لأطماع زوجها (حسين) واستغلاله إيّاها. إلا أنها ظلّتْ مستسلمة لهذا القَدَر إلى الرمق الأخير. ظلّت منقادة لأهوائها، وأطماعها، وغرائزها، وابتذال نفسها، بإصرار عجيب، حتى ماتت في وضعٍ مُزْرٍ. لم يستيقظ ضميرها، ولم يشبع نهمها في الملذّات، حتى بعد أن استغنت، بل جعلتْ توظّف أموالها وخبراتها في المزيد من اكتشاف ما لم تكتشف وتذوّق ما لم تذق، أو حسب قولها: (التنقّل كالفراشات بين الحدائق!) ((2006)، ملامح، (بيروت: دار الساقي)، ص148). مما ينفي مصداقية كونها ضحيّة فقر، أو ضحيّة مجتمع؛ كيف وقد ظلّت على وتيرة متصاعدة في هذا الاتجاه؟ قبل الزواج، وبعد الزواج، وقبل الطلاق وبعد الطلاق، وقبل الغنى وتحقيق الأحلام وبعد الغنى وتحقيق الأحلام، وفي داخل المجتمع المحلي وفي خارجه، وإلى نهايتها المحتومة! على حين استيقظ ضمير الرجل، زوجها حسين، فتغيّر وتبدّل، وتاب، بل كان يبكي ويعاني حتى خلال تجربتهما كزوجين. وكذلك جاءت شخصية (فؤاد) - خليل (ثُريّا) - الذي استيقظ أخيرًا، وتغيّر خطابه، وأخذ يتحدث عن الأسرة وينصح ثُريّا. (ص 152). فماذا هذا الذي فعلته الكاتبة بالمرأة من خلال نموذج ثُريّا؟! ولقد كان الرجل هو الذي يبدأ لُغة العقل، والقِيَم، مهما طال به المطال، في حين تبقى المرأة - كما تصوّر الراوية نموذجها - مسلوبة الإرادة، والشخصيّة، والتفكير. هي عدوّة نفسها قبل غيرها! فهل حقًّا المرأة بتلك الصورة الشيطانيّة، أو الواهية المريضة؟ كلاّ! لكن حفني نفسها لم تستطع أن تخرج بوعيها عن القاموس الاجتماعي والبيئويّ الذكوري - وهي صنيعته - في تصوّره المرأة وتصويرها، شخصيةً شهرزاديّة، تتخذ الإغواء سلاحًا. بل إن شخصية ثُريّا لأسوأ من ذلك؛ إذ لم يَعُد الإغواء لديها وسيلة، بل صار غاية لغايات، وبات معيار الحريّة التعرّي! وهي تعترف - وقد فشلت في أن تكون ابنة وفيّة، أو أمًّا حانية، أو زوجًا صالحة - قائلة: (إنني أُمٌّ أنانيّة، لم تترك ولو حصّة ضئيلة لطفلها، لكنني أعود فأضع اللوم على زوجي الذي استخدمني وسيلة لتحقيق مآربه. ثم أسأل نفسي بخُبث متعمّد: تُرَى هل كان سينجح في قيادتي لو لم أكن مطيّة سهلة؟!) (ص123). وهي محاكمة عادلة، المُدانة فيها ثُريّا، ومن ورائها بنات حوّاء! محاكمة عادلة حسب الواقع المعطَى في الرواية، لا الواقع الاجتماعيّ الحقيقيّ، بدليل أن النصّ يعرض نماذج نسائيّة، (كأُمّ ثُريّا، وعمّة حسين)، عاشت واقع الفقر والضغوط الاجتماعية، الأشد مما عاشته ثُريّا، ولم تؤدّ بهنّ تلك الظروف إلى ما برّرته الكاتبة لبطلتها من سلوكيّات تارة وأدانتها فيه تارة. وعليه، فبسقوط ذريعة الفقر عن ثُريّا، وذريعة الكبت الاجتماعي، يظهر أنها شخصيّة مريضة شاذّة، لأسباب غير تلك التي تذرّعت الكاتبة بها، وبالغتْ في دافعيّتها، كي تُسقط عليها خطابها في إدانة المجتمع اقتصاديًّا وتربويًّا. ونمط شخصية ثُريّا يمكن أن يوجد في مختلف المجتمعات، وفي أكثرها مناقضة لتلك العوامل التي اتّكأت عليها الكاتبة لتسويغ شخصيّة البطلة. ممّا يعني أن النصّ قد اتجه إلى انتقاء شريحة إنسانيّة، وافتعل تضخيمها، بهدف وَصْم المجتمع كله بها، وعَزْوِ حالاتها إلى سلبيّات نظامه العام.

تلك هي الثغرات (التكنيكيّة) التي جعلت (ملامح) تبدو على المستوى الثقافي تسير بعكس الاتجاه الذي أعلنتْ الاتّجاه إليه، ولا سيما من خلال تصريحات المؤلّفة، التي تُنبئ إجمالاً عن مقاصد حسنة. أمّا على مستوى البناء الفنّي، فعلى الرغم من طريقة الكاتبة في تكرار الحكاية على لسان كل شخصية - وكأننا إزاء مرايا متجاورة، تُرى فيها الشخصية من زاويتها الذاتيّة وزوايا شركائها؛ إذ جعلتْ لقصة كل شخصية فصلاً، ما أورث العمل درجة من الرتوبة، نظرًا لعود القارئ على بدء بين حين وآخر - بالرغم من ذلك، فالحق أن الكاتبة كانت بارعة ومؤثرة كثيرًا في وصف مشاهد الصراع النفسي والظروف البيئيّة للشخوص، وبخاصّة شخصيّة حسين. وإن كانت غالبًا ما تُلقي على ألسنة الشخوص من المقولات الفلسفيّة - التي تمثّل صوت المؤلّفة نفسها لا أصواتهم - ما لا يتناسب والبنية الذهنيّة لتلك الشخوص.

ومع ثغرات لغويّة غير يسيرة في العمل، فإنه يُحسب للكاتبة أيضًا تمسّكها بلغة عربية جيّدة في السرد، وعدم تنازلها - كغيرها - عن الفصحى للعاميّة في الحوار.

لإبداء الرأي حول هذا المقال،أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها الى الكود 82244

* (عضو مجلس الشورى) aalfaify@yahoo.com


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة