الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 25th August,2003 العدد : 26

الأثنين 27 ,جمادى الثانية 1424

إحسان عباس : سارق النار !
د.عبدالله الفَيْفي

في تلك السنوات التي شَرََعَ فيها الوعيُ يعانق فواتح الصفحات من النقد العربي، إبان سنيّ الطلب الأولى في الجامعة، عانق جهودَ الناقد العربي الفذّ إحسان عباس، كما عانقته أجيال وأجيال من قبل ومن بعد. ثم كانت اللُّقْيَا المباشرة في الجنادرية، عَهْدَ أن كانت الجنادرية ما تزال مهرجاناً للتراث والثقافة.
.. وتستمرّ العلاقة وتظلّ..
لقد مثّل إحسان عباس نموذجاً نادراً من النقاد العرب المحدثين، أخلصوا لعملهم «العلمي»، فعكفوا على ممارسة النقد بوصفه «عِلْمًا»، لا بوصفه «ارتزاقاً»، ولا مجاملة، ولا طلباً لأن يقال؛ ولو عن سبيل استعراض المعلومات والرؤى المبذولة في الطريق، لا يفضي رصدها آخرَ المداد صوبَ شيء! توشك الذاكرة ألا تعْلق قطّ باسم إحسان عباس إلا في عمل تأسيسيّ جادّ، حتى صارت نصاعة هذا الاسم قاسماً مشتركاً بين جميع الدراسات المعنيّة بالكلمة النابضة قديمها والحديث. ذلك أن همّه فيما تبدّى لم يترام به يوماً في أتون فكر مؤدلج، أو ينسق وراء تسليع نقديّ؛ إذ يتخذ الناقد قلمه سلاحاً اتّباعيًّا، ينضوي به تحت مظلة «مليشيا» حزبية ما، أو يسخّره وسيلة ترويجية رخيصة لسلع أدبية أرخص، لا يعنيه الإبداع، وليس منه في شيء، بمقدار ما يعنيه أن يصبح قناة نفسه الإعلامية أولاً ثم المحظيّ لدى هذا التيار أو ذاك. وما أكثر هؤلاء النسل من «نقاد السلعة» اليوم!
إن شئت وجدت إحسان عباس الناقد والمؤرخ، أو أردت رأيته روائيًّا، أو أحببت قرأته شاعرا. إنه الناقد المبدع والمبدع الناقد. أمّا إن كنت حفيًّا بالمخطوطات والتراث ولاسيما التراث الأندلسي فستلفيه المحقِّق الثَّبْت. لكن إنْ كنتَ من دعاة التخصّص العقيم في الدراسات الإنسانية، أو حتى«ألزمتَ نفسك ما ليس يلزمها» أن تكون في زمرة المتطوّحين بين داحسيات التراث والحداثة، فقد تدهش لجمع الرجل بين دراسة عن «بدر شاكر السياب»، وديوان «البياتي» «أباريق مهشمة»، ثم «أدب أبي حيان التوحيدي»، و «ابن حزم»، وصولاً إلى «كثيّر عزة»، و«لبيد بن ربيعة». وستلقاه إلى جوار هذا كله الترجمان الحصيف لذخائر مما أنتجته القريحة الإنسانية، فكراً وأدبا. يقدّم إليك هذا وغيره في غير ادّعاء ولا رياء، بل في تواضع العالم، ونبل الكريم، ونزاهة الرائد الذي لا يكذب أهله.
أ لأنه الفلسطيني كان نصيبه إذن أن يرحل عن دنيانا اليوم، ونحن منكّسُو الرؤوس والنفوس؟!
أ ولم يمتدّ به العمر ما يكفي حتى يشهد تاريخاً عريقاً من نكسة عربية إلى أنكس، ومن نكبة إلى نكبات اخر تترحّم عليها ؟!.. كيف لا ، وهو الفلسطيني المشرّد وعائلته في دنيا العروبة، منذ نكبة 1948، إذ مَحَتْ الدولة الصهيونية قريته عن أمّها وأبيها؟!
بلى، وقد كان خلال ذلك أحد الشهب التي ما فتئت تمدّ العقل والروح العربيين ببصيص الأمل في غدٍ لعله لناظره قريب، يغالب إحباط ما يقذفه به التاريخ من جهة وما يحدق به من الواقع المعاصر من جهة أخرى بمحض شميمٍ كالوهم من «أزهار البرية» :«ديوانه اليتيم، باكورة نشره الشعريّ في الثمانين من عمره!»، أو بحلمٍ سيأتي فجرُه «بسارق نار» أو «سارق نور».
أ نبكي شيخ النقاد إذن أم نبكي فَقْدَنا إيّانا؟!
وما يجدي البكاءُ على الأيامى والثكالى والكسالى والعجزة؟!
إنما تلك ذكرى رجل غادرنا بعد أن أنار سماء الثقافة العربية طيلة القرن الماضي، وأدار دفة الحركة الثقافية العربية على مدى خمسين عاماً على الأقل؛ أي منذ ولد في قرية عين غزال بحيفا الفلسطينية أو بالأصح: «التي كانت فلسطينية» 1920، ثم تخرج من الكلية العربية في القدس 1941، وتنقّل بين الجامعات العربية، إلى أن كان آخر ما خطّته يمينه فيما نعلم سيرته الذاتية بعنوان «غربة الراعي»، وكأنما عنوان عمله الأخير هذا يكشف حقًّا عن «غربة الراعي» في بيداء من السراحين «كل نفسٍ ذائقة الموت»، ولا حول ولا قوة إلا بالله! لكن عمل العالم لا ينقطع ولا يموت؛ فلئن ذهب إحسان عباس «الجسد» فإن إحسان «الفكر والروح» سيبقى ما بقي هذان في دنيانا!
ليرحم الله إحساناً كفاء ما أحسن في عمله!
ثم ليرحمه جزاء ما أراد لأمته الحياة!
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مسرح
وراقيات
المحررون
الملف
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved