الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 26th January,2004 العدد : 45

الأثنين 4 ,ذو الحجة 1424

مساقات
الشاعر بوصفه كلمة شعريّة! (3)
د. عبدالله الفيفي

تقدّم في المساق الماضي أن من ألقاب الشعراء في التراث العربي ما يعبّر عن ملحوظات نقدية أسلوبية على شعر الشاعر. فمنها ما يسجل إلحاح الشاعر على تعبيرٍ في شعره. كتكرار «الخِرَق» في شعر (ذي الخرق الطهوي) وهنالك أكثر من شاعر يدعى (ذا الخرق)1 في قوله2:
لمّا رأت إبلي هزلَى حمولتها
جاءت عجافاً عليها الريش والخِرَقُ.
وما خطبنا إلى قومٍ بناتهمُ
إلاّ بأرعن في حافاته الخِرَقُ.
ومع أن البيت الأخير ليس مع القطعة التي أوردها صاحب (الأصمعيّات)، إلا أنه على وزنها نفسه وقافيتها، وقد يكون معها من قصيدة واحدة. ومن ثمّ، فلربما لم يكن وراء تلقيب الشاعر بهذا اللقب ملاحظة تكرار الكلمة مرتين في شعره فحسب، ولكن أيضاً ما قد يكون وقع بين الكلمتين من عيب (الإيطاء) بين قوافي القصيدة، وهو أن يكرّر الشاعر القافية بمعناها قبل مضي سبعة أبيات من القصيدة. بل إن (الإربلي)3 ليذكر بيتاً ثالثاً كرر فيه ذو الخرق كلمة «الخِرَق» هو:
لا يألف الدرهم المصرور خِرْقتنا
لكن يمرُّ عليها، ثم ينطلقُ
وقد رجّح محققه أنه مع البيت الأول من قصيدة واحدة. وهكذا فقد كان لقبُ الشاعر بمثابة موقفٍ نقديّ من ظاهرة الترقيع الأسلوبي لشعره بمفرداته المكرورة.
ويعدّ لقب (جران العود)، الذي أُعطي ل(عامر بن الحارث النميري، وهو شاعر مخضرم)، مثالاً آخر على تلك الألقاب النقدية التي ترقب ظواهر التكرار في شعر الشاعر. ذلك أنه قال، يخاطب امرأتيه:
خُذا حذراً يا خلّتيّ فإنني
رأيتُ جران العود قد كاد يصْلُحُ
عمدتُ لعودٍ فالتحيتُ جرانهُ
وللكيس خيرٌ في الأمور وأنجحُ 4
فلزمه لقب (جران العَوْد)، وذهب اسمه. على أنه يبدو وراء تلقيب جران العَوْد بلقبه هذا عِلَّةٌ أخرى أبعد من ظاهرة تكرير العبارة في قصيدته، تتصل بالسياق الخارجي لقوله. فالبيتان هما في مخاطبة زوجتيه، يخوّفهما بسوط قدّه من صدر جمل مسنّ، فهو أصلب ما يكون؛ لأن جلده أقوى وأمتن. في إشارة ثقافية اجتماعية إلى سلطة الرجل الذكورية على زوجتيه، إذ هو فحل، عَوْد، له جرانه وسوطه. ومن هنا يبدو النسق الثقافي إلى جوار النسق الفنّي وراء استحقاق الشاعر لقب «جران العَوْد»؛ من حيث كان وفق المنظور الجاهلي فحلاً اجتماعيّاً في موقفه من نسائه.
وكما كانت تلفتهم طرافةُ التعبير أو تكرارُه فيلقّبون به الشاعر، كان الانزياح المجازيّ سبباً ممكناً لتلقيب الشاعر، وذلك حينما يجترح مجاورة كلمتين لم تتجاورا من قبل. فعلى الرغم من اختلاف الأقاويل حول لقب (تأبّط شرّاً، ت.542)5 مثلاً، إلاّ أن قوله:
تأبّط شرّاً ثم راح أو اغتدَى
يوائم غُنْماً أو يشيفُ على ذَحْلِ
كان هو السبب الأرجح في تلقيبه بتأبّط شرّاً، وكأنما الحكايات الأخرى التي حيكت حول هذا اللقب ماهي إلاّ ضرب من التفسير المتأخّر للبيت لإعادته من خيالية المجاز إلى واقعية الحقيقة. ليكون المعنى إذن: «تأبط أفعى»، أو «تأبط غولاً»، أو «تأبط سيفاً»، أو «سهاماً»، أو «سكّيناً»، أو نحو ذلك مما يمكن أن يسند فعل «التأبط» إليه. أمّا أن يتأبّط هذا المجاز، من الاستعارة المكنية التجسيدية، فمجاوزة لما كان في المألوف البياني السائد في عصره. ولو قال «تأبط سيفاً» أو نحوه لما صار ذلك لقباً له. وربما كان السبب وراء تلك الحكايات المروية في تعليل لقب الشاعر أن أولئك الذين التمسوها قد أعْوَزَهم أصلاً بيتُ الشاعر الذي يفسّر لقبه هذا. وقريب من هذا تجسيد «الريح» في قول الآخر:
يا هند ما تأمرين في رجلٍ
قد اشتفى من فؤاده الكمدُ
هبّتْ شمالٌ فقيل من بلدٍ
أنت به طاب ذلك البلدُ
مقبّل الريح من صبابته
ما قبّل الريح قبله أحدُ 6
فلُقّب الشاعر ب (مقبّل الريح)، ونُسي اسمه فلا يُعرف. ليس لأنه قال بيته الظريف هذا فحسب، بل أيضاً لأنه «ماقبّل الريح قبله أحد»، ولا صاغ هذه الصورة الهزلية اللامعقولة قبله من أحد.
وهكذا فقد كانوا يختزلون الشاعر في كلمة من ديوانه أو كلمتين، إذ يتوّجونه لقباً يحمل لمحةً نقديةً، تتجه إلى لفظه، أو معناه، أو أسلوبه البلاغي عموماً. وهم في ذلك يسيرون على مبدئهم البلاغي في الإيجاز، حين يطلقون اللقب على الشاعر مكتنزاً بالدلالة على شعره، وربما على شخصيته أيضاً، كما يطلقون الأمثال مكتنزة بدلالاتها الرمزية على خلفيّاتها من حياة العرب وتجاربهم الوجودية.
ولهذه الحفرية صلة.
إحالات
1) انظر: الآمدي، (1982)، المؤتلف والمختلف، عناية: ف.كرنكو (بيروت: دار الكتب العلمية)، 119.
2) الأصمعي، (1993)، الأصمعيات، تح. أحمد محمد شاكر وعبدالسلام هارون (مصر: دار المعارف)، 124، الجوهري، صحاح اللغة، (خرق)، البكري، (1936)، سمط اللآلئ، تح. عبدالعزيز الميمني (القاهرة: لجنة التأليف والترجمة)، 2: 747، البغدادي، (1979)، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، تح. عبدالسلام محمد هارون (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب)، 1:4243.
3) انظر: (1989)، المذاكرة في ألقاب الشعراء، تح. شاكر العاشور (بغداد: دار الشؤون الثقافية العامة). 28.
4) ديوان جران العود، 9؟؟. وانظر: ابن قتيبة، (1966)، الشعر والشعراء، تح. أحمد محمد شاكر (القاهرة: دار المعارف)، 718، ابن رشيق، (1955)، العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، تح. محمد محيي الدين عبدالحميد، (مصر: مطبعة السعادة)، 1:48، السيوطي، (د.ت)، المزهر في علوم العربية وأنواعها، عناية: محمد أحمد جاد المولى، وآخرين (القاهرة: دار التراث)، 2:441.
5) انظر: الأصفهاني، (1983)، الأغاني، تح. لجنة من الأدباء، (بيروت: دار الثقافة)، 12:144197.
6) The Lataif ALMaarif of Thaalibi. Translated with introduction and notes by C.E. Bosworth. The university press, Edinburgh, Britain, 1968: (Chapter two: PP.5200), P.34.
كتاب اطّلع عليه الباحث في:
(The Main Library: PJ7750 T5 L352, Indiana University Bloomington, Indiana State, USA).

aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
المنتدى
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved