Culture Magazine Monday  26/11/2007 G Issue 224
فضاءات
الأثنين 16 ,ذو القعدة 1428   العدد  224
 

مساقات
د. عبد الله الفَيْفي

 

 

- 1 -

عرضنا في المساق السابق نصًّا شعريًّا من القرن التاسع الهجري، زُعم أنه عاميّ اللغة. ورأينا أنه على الرغم من اضطراب روايته، وربما تحريف بعضها، واضطراب ما نُشِر من النصّ في جريدة (الرياض)، ومن التعديلات التي اقتُرحتْ على بعض الكلمات فيه، اعتقادًا أن المكتوب يجب أن يطابق المنطوق، وإنْ كان ناجمًا عن عيب نطقٍ أو عن تأثّرٍ بلهجة - ثم لغرض آخر وهو: أن يوافق النصّ المنطوق العاميّ، بل ليساير الدارج اليوم على ألسنة العامّة - أقول: على الرغم من ذلك كله فإن ملامح النصّ الباقية كانت تكشف عن لغة الشعر الدارج في القرن التاسع الهجري، وأنها كانت ترقَى إلى مستوى قريب جدًّا من الشعر الفصيح. فكيف بما يُزعم عن عاميّة أدبٍ كانت قائمة في صدر الإسلام أو في الجاهليّة؟

والآن بعد قرابة أربعة قرون ازدادت الشُّقّة بين الفصحى والعاميّة، لا بين اللغة الرسميّة واللغة اليوميّة فحسب، بل كذلك بين اللغة الشعريّة الفصيحة والدارجة. ولذلك عواقبه الآتية، ما لم نَصْحُ من خَدَر الإلْف، والهوى، وخصوصيّاتنا القميئة. وصار معلنًا، عبر كل وسائل الإعلام، أن لدينا أدبين عربيّين، عاميًّا وفصيحًا، بل بات معلنًا أن العاميّ يبدو أجمل، وأشهى، وأجدر بالخدمة والترسيخ، وأحرى بمجاهدة الشباب والشيب لحفره في وجدان الأُمّة، وعلى قارعة التاريخ، بكل الوسائل المتاحة، ومهما كان الثمن أو العواقب. وما هذه الثورة العارمة، الفضائيّة والأرضيّة، ولا ما يُنفق من أموال طائلة، وجهود نادرة النظير فيما يفعله العرب عادةً لثقافتهم ومن أجل حضارتهم، إلاّ المهاد لمستقبلٍ لا نُحسد عليه! وسيأتي يوم قريب تُعدّ دارجتا الصومال وإريتريا - على سبيل المثال لا الحصر - وهما لا تخلوان بدورهما من عروبة ما، ولا من أدب عاميّ ذي آثارٍ عروبيّة رثّة، لغتين شعريّتين عربيّتين، تُخصّص لهما الملاحق الملوّنة، والمهرجانات الصاخبة، والمسابقات الطاحنة، والقنوات الفضائية الباثّة على مدار الساعة، بوصفهما تراث عربٍ ما أيضًا، ومن زاد عربان اليوم والغد، ويا لضيعة الأمجاد لو ضاع تراث الآباء والأجداد، أو لم يورّث لأبنائهم وأحفادهم النُّجباء، جيلاً إثر جيل!

ولقد أسلفنا مرارًا أن لا نزاع أن في كل اللغات مستويات دُنيا وعُليا، لكنّ الدُّنيا يجب أن تبقَى دُنيا، وفي حدودها الشفهيّة. أمّا عاميّات العربيّة اليوم فقد زُفّت كلغات عُليا: تخاطبًا، وإعلامًا، وتعليمًا، وأدبًا، وكتابة، ومنافِسة للعربية الفصحى، لها أنصارها ومجاهدوها، وغدًا سوف نراها ونسمعها لغة علمٍ ومناهج أيضًا، وما ذلك على العرب بغريب. ومع هذا ما زال فينا من يدسّ رأسه في رمال الأحلام، أو يداجي، رغبة في رهبة، أو يلبس الحق بالباطل؛ فباسم القبيلة، والتراث، والشعب، ومخلّفات الآباء والتاريخ، يسعى إلى أن يُقنع نفسه قبل الآخرين بأن الأمر ما زال في نطاقه الطبيعي، لا خوف على وحدةٍ، ولا تهديد لهويّة، ولا مساس بتراث الأمّة الحضاري الحقيقيّ، ولا تأثير على اللغة الواحدة، التي كان يُفترض أن ترسّخ لتكون لسان العرب وسلّمهم الإنسانيّ إلى العصر والتقنية، بل قد يصوّر هذا الهاربُ من نفسه، ومن شمس الحقيقة فوق رأسه، أن من ينتقد واقع الحال، ويدقّ نواقيس الأخطار في الآذان، إنما هو، لا غيره، المشبوه، وذو المآرب الأخرى، عدو الشعب، والقبيلة، والأصالة، وتراثنا العاميّ الثمين، وليس بعيدًا أن يكون قليل أصلٍ وفصل، وإلاّ لوسعه ما وسع أهله وذويه!

والقضية هنا - كما ألمحنا من قبل - لم تعد شِعْرًا، بل أضحت مخطّطًا تدميريًّا للغتنا العربيّة - مستودع تراثنا، وحاملة مخزوننا الحضاري، وحبل اتصال السماء بالأرض والأرض بالأرض - ومشروعًا تخريبيًّا لثقافة مجتمعنا الصميمة، واستثمارًا أنانيًّا لسلب عقول الجيل مع جيوبهم.

لقد كان المفترض في المثقفين النزيهين - مهما كانت انتماءاتهم - أن يهبّوا من غفوة المتاجرة ببعض المواد الثقافيّة، التي لا تألو جهدًا في تتفيه عقول المجتمع، واجترار أبنائه إلى عصور الأُميّة والظلاميّة، باسم الموروث الشعبيّ، ممّا آن تخطّيه بتخطّي زمنه وأسبابه وشروطه. إلاّ أنهم لا يكادون يحركون ساكنًا ولا متحركًا، فيما هم يشاهدون ما يُراد - بدل مكافحة الأمّية العربيّة بأشكالها، وعِوَض النهضة التنويريّة / الحُلم - من أن تسيّد ثقافة التبدّي والتصحّر والتخلّف، وتُعاد عصور الشفاهيّة والرجعيّة العتيقة. أمّا مسألة اللغة والهويّة، فحدث ولا حرج، فما لا يُنال باللغات الأجنبيّة، ليُنل بالدعوة إلى العاميّة، بتشجيع أدبها، ونشاطاتها.. تغريبًا للأُمّة عن لغتها وجذورها، كي يمتدّ أمد ابتعادها عن لغة كِتابها ومكتبتها؛ لأن تلك اللغة هي لغة دينها وحضارتها، والارتباط بها يعني الارتباط بمنابعها الأصيلة، ومن المطلوب - بقصد أو بغير قصد - قطع تلك الذريّة، وبتر ذلك الاتصال بالجذور الحقيقيّة، بحثًا عن تجذّرات فرعيّة عبر ترنّحات التاريخ، بأن يُجعل ماضيها في: تراثها الشعبيّ المتأخّر، ومرجعيّاتها في تاريخها الإقليميّ القريب، فذلك تراثها، وذلك مجدها الذي يجب الحفاظ عليه، وتمجيده، والذبّ عنه، وتسخير التقنية الحديثة في خدمته، وتزيينه في نفوس الشباب، وخلق جحافل من النجوم في ميدانه، شعراء أو مموّلين، وتسخير ميزانيات لدعم قرضه وقرض العرب من خلفه، واستحداث مهرجانات له صاخبة، تدشّن باسم التراث الشعبيّ، بقضّه وقضيضه وغثّه وسمينه!

لا مانع أن تظل اللغة العربية لغة صلاة فقط، ولغة طقوس دينية، كسالفتها اللغة اللاتينية، أمّا أن تغدو لغة حياة ففي ذلك خطورة تجب مكافحتها أو تبطيئها!

- 2 -

ونعود إلى مسابقة (أمير الشعراء)، المشار إليها في مساق سابق، التي تبنّتها هيئة أبي ظبي للثقافة والتراث في مجال الشعر العربيّ الفصيح، والتي سرّت كل منتمٍ إلى الفصحى- بكل ما تعنيه - غيورٍ على الأصالة الأصيلة لا الأصالة المدجّنة الهجينة، وأزعجت من في نفسه رُهاب من ذلك التوجّه أو من بعض ما يعنيه، إذ على الرغم ممّا قد يُثار من تحفّظ على حصر (جائزة أمير الشعراء) في «الشعر التقليدي»- حسب إعلانها - أو حتى على لقب «أمير الشعراء» نفسه، فإنها تُعدّ بادرة لا يملك المتابع سوى أن يحيّي القائمين عليها! ومن تابع البرنامج سيبتهج لكشف تلك المواهب الشعريّة، الغائبة، أو المغيّبة، أو المهمّشة في عالمنا العربي، من موريتانيا إلى سلطنة عُمان. وسيشهد - بحياد مطلق - أن المتأهّلين إلى نهائيات أمير الشعراء تأهّلوا في المجمل عن جدارة فنيّة حقيقيّة. وليس يضير عدالة التقييم في شيء أن لا يخلو التصويت من تحيّزات إقليميّة أو وطنيّة، فتلك طبيعة المسابقات الجماهيريّة، وأمر لا مفرّ منه فيها. ولئن قيل: إنها تثير من الإقليميّات ما تثير، فما يُحتمل من ذلك بأكثر ولا أشدّ ممّا تتسبّب فيه المنافسات الرياضيّة الكرويّة بحال من الأحوال! كما أنها لا تُقارن بخطورة ما تثيره أحيانًا المسابقة الأخرى في برنامج «شاعر المليون» من تأجيج عصبيّات قَبَليّة، لها عمقها التاريخي العضويّ، وفاعليّتها التفتيتيّة في جسد كل وطن على حدة.

وإن من الحقّ القول هنا: إن المشاريع الثقافيّة الرائدة والرائعة التي تنهض بها الجارة الشقيقة، الإمارات العربيّة المتّحدة، ليست محلّ استغراب. ولا يجرمنّ كاتبًا نَقْدُه أمرًا على أن لا يسجّل إشادته بأمرٍ آخر جدير بالإشادة. ومَن لا يثمّن كثيرًا - على سبيل المثال - مشاريع (المجمع الثقافي) في الإمارات؟ الذي جاء من أبرز إنجازاته: (موسوعة الشعر العربي)، تلك المكتبة العربيّة المتكاملة، التي تحوي معاجم اللغة، ودواوين الشعر، ومختلف كتب التراث، على قرص حاسوبيّ واحد، يحوي في نسخة عام 2003م: 2439589 بيتًا شعريًّا. إضافة إلى قصائد صوتيّة لعدد من كبار شعراء العربيّة، منذ العصر الجاهلي مرورًا بعصور الأدب المتتالية، تلقى بأصوات بعض الممثّلين، كعبدالمجيد مجذوب، ومحمود سعيد، وعبدالرحمن آل رشي. وهو إنجاز تِقَني، علمي توثيقي، تعليمي تربويّ، يؤهّل تلك الموسوعة لتسمّى: «موسوعة في التراث العربي»، لا: «موسوعة الشعر العربي».

ولنا وقفة مع أمير الشعراء لاحقة.

- الرياض aalfaify@yahoo.com لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة