Culture Magazine Monday  27/08/2007 G Issue 213
فضاءات
الأثنين 14 ,شعبان 1428   العدد  213
 

مساقات
من نحن؟!
د.عبدالله بن أحمد الفَيفي

 

 

ذكرنا في المساق السابق أن خطورة الشعر العاميّ باتت تتخطّى المسألة اللغويّة إلى مسائل فكريّة وثقافيّة واجتماعيّة وأمنيّة؛ ممّا يهدّد وحدة المجتمع واستقراره وتطلّعه إلى حياة مدنيّة حديثة. وأن القضيّة تتعدّى اللذة الفنية والطرب البريء بشعر، إلى ابتعاث قِيَم ماضويّة وترسيخها عبر الأجيال، من تلك القِيَم الاجتماعيّة المعيقة للحياة المعاصرة. واستشهدنا على خطورة ذلك التشجيع للنبش في الذاكرة العاميّة عبر الأدب بما نُشر في الصحافة مؤخّراً من بروز مظاهر اجتماعيّة لنعرات قَبَلِيَّة حادّة، استيقظت بفعل ما أجّجته مسابقات الشعر العاميّ، والحماسيّات القَبَليّة الإعلاميّة والاجتماعيّة التي واكبتها. ومنها أن عادت بعض رموز التفكّك الاجتماعي عبر علامات رمزيّة قَبَلِيَّة يضعها بعضٌ على بيوتهم أو مركباتهم! بل بَلَغَ الأمر إلى خصومات لبعض الشرائح الاجتماعيّة، جرّاء بعض القصائد التي نالت منها، بل وصل الأمر إلى جريمة قتل لأحد الشعراء في إحدى المدن السعوديّة، لقصيدة قالها، ممّا يعيدنا اجتماعيّاً وثقافيّاً قروناً سحيقة إلى الماضي.

وعليه، فقد بات من التلاعب الممجوج بالألفاظ، لدى مُنْحَدَر كهذا، اللتّ والعجن للتفريق بين عاميّة اللغة وعاميّة الثقافة! فالإنسان ابن لغته وصنيعتها، ومن المستحيل أن يكون المرء عاميَّ اللغة حضاريَّ الثقافة، إلا بضرب من الفصام، لا قِبَل لسَوِيَّة به. إلاّ إنْ نُظر إلى مفهوم العاميّة والحضاريّة، وعلاقة اللغة بالثقافة، بتسطيح وشكلانيّة وفصام معرفيّ كذلك. ذلك لا ينفي وجود عاميّة ثقافيّة في الأدب الفصيح أحياناً، بمعنى: جاهليّة ثقافيّة تستمدّ وجودها من تراث العرب العتيق. غير أن العاميّة اللغويّة تعدّ الوريث الشرعيّ، والامتداد الأكبر، والأكثر جذريّة، للثقافة الجاهليّة، بمسلّماتها وأعرافها وبناها الفِكريّة. بل إن حال العاميّة - عند النظر الفاحص - لتبدو أكثر من هذا تردّياً، من حيث إنها قد عاشت قروناً من العُزلة والتخلّف والتشرذم، انحدرتْ بها، وضاعفتْ جاهليّاتها، لا لغويّاً فحسب، ولكن قيميّاً أيضاً وثقافيّاً، عن ذلك المستوى الذي كانت عليه الحال في العصر الجاهليّ. ويمكن لأي موازنة أن تكشف بسهولة أن عرب الجاهليّة كانوا أرقى لُغة، وأنضج أدباً، وأعمق فكراً، من مجتمعاتنا العاميّة قبل مئة سنة أو مئتين، ممّا نعتدّ بمخلّفاتها، ولا نميز غثّها من سمينها، وننعتها بتراثنا الشعبيّ، فاتحين لفلولها المنابر والقنوات، بكل اعتزاز، كي تعيش بين ظهرانينا، وتبيض وتفرّخ، وتتناسل إلى ما شاء الله، لا لشيء قيّم يبرّر ذلك كلّه، سوى أنّا وجدنا عليها آباءنا! ونحن أمّة ما تنفكّ تقدس ماضيها وآباءها، مهما كان أو كانوا! ولسنا نعني بالمفاضلة بين تراث الجاهليّة وتراث العاميّة العربيّة مفاضلة بينهما في الجوانب العَقَديّة أو الدينيّة بالضرورة - ممّا ينصرف إليه التركيز عادةً عند تقييم الجاهليّ والإسلاميّ - وإنما نعني المفاضلة بينهما في أبعاد الممارسات الاجتماعيّة والسلوكيّات الثقافيّة، ناهيك عن مستوى اللغة والأدب والفِكر العامّ.

أمّا البُعد الفِكريّ اللغويّ الذي يقف وراء بعض الحركات العاميّة، دعماً لها أو دفاعاً عنها، فقد كفانا الحديث عنه - منذ عشرين سنة - الأستاذ الدكتور مرزوق بن تنباك، من خلال كتابه (الفصحى ونظرية الفكر العاميّ)، 1986م، الذي تصدّى فيه للإجابة عن سؤال محوريّ، صاغه على لسان ذلك الفِكْر، هكذا:

(ما الذي يمنع من إعادة النظر في قواعد اللغة العربيّة من أساسها، لتكون كاللغة اللاتينيّة، تنبثق منها عدّة لُغات، يكون أساس كل لغة قواعد عربيّة لكل لهجة في دولة عربيّة؟).

قد يقول قائل - كالعادة -: هذه مبالغات وحماسيّات فارغة، فنحن - حاشا لله - لا نعني هذا، ولا ننويه، ولا نقصده! وقد يضيف إن اللغة العربيّة محفوظة، ولا خوف عليها، أبداً!

وتلك إجابة الساذج الجاهزة. وما حُفّت جهنّم إلا بحُسن النوايا! أمّا صيرورة الأمور، وبالاستمرار في هذا الاتجاه المتزايد من الاحتفاء الشامل وغير المسبوق بالعاميّة، الذي زاد أضعافاً مضاعفة عنه قبل عشرين سنة، فستؤدي إلى مقاربة ذلك السؤال، والسعي إلى إيجاد إجابة له، طال الزمان أو قَصُر.

تلك هي حقيقة اللهجات وما تُنذر به الوطن العربي الكبير من محيطه إلى خليجه. ولنأخذ مؤشّراً آخر على ذلك من هذا الخبر المنشور في (عكاظ، الأحد 1-7- 1428هـ = 15 يوليو 2007، العدد 2219)، تحت عنوان (جدل مغربي حول اللغة الدارجة وسؤال (من نحن)؟)، حيث يقول تقرير لتوم فايفر (الرباط):

(امتد استخدام اللغة الدارجة التي تتردّد على ألسنة المغاربة في حياتهم اليوميّة إلى وسائل الإعلام والموسيقى، ليطالب بعضٌ باعتبارها لغة البلاد الرسميّة، في وقت بدأ فيه بعض المغاربة يتساءلون (من نحن؟). واللغة الرسميّة في المغرب العربيّة الفصحي، ولكن معظم الناس من المستشارين الملكيّين إلى عمّال النظافة في الشوارع يتحدّثون خليطاً من الكلمات العربيّة والبربريّة والفرنسيّة والإسبانيّة. ويعكس هذا التنوع تاريخ البلاد، كنقطة عبور قديمة تربط بين أفريقيا وأوروبا والعالم العربيّ. فمثلا عبارة (يالا نشوف في الكوزينا اذا كان البوتا خداما باش نطيبوا شلادا ديل خيزو)، تعني: (لنذهب للمطبخ لنرى إذا كان الموقد يعمل لنعدّ سَلَطة الجزر). ومعظم كلمات الجملة من العربيّة ولكن كلمة (كوزينا) مأخوذة من الإسبانية، و(بوتا) هي طراز من مواقد الغاز الفرنسيّة يعرف باسم (بوتاجاز)، و(شلادا) مأخوذة من الفرنسيّة والإسبانيّة وتعني: (سَلَطَة). ولا يُثني كثير من المغاربة على لغتهم ويرون فيها تشويهاً للغة العربية الخالصة، التي يتعلّمها الصِّبْيَة في مدارس تعليم القرآن في البلاد. واختلفتْ اللغة الدارجة كثيراً عن العربيّة التي انتشرت منذ الفتح العربيّ لشمال أفريقيا في القرن السابع، حتى أن الزائرين من الشرق الأوسط يحتاجون في كثير من الأحيان لمترجم يُعينهم على فهم اللغة. وتحتوي اللغة الدارجة على عدد أقلّ من أصوات الحركة، ويتحدّثها المغاربة بسرعة كبيرة جدّاً. وفي أوج المدّ القوميّ العربيّ في السبعينيّات كان يُنظر للكلمات الأوروبيّة على أنها من مخلّفات الاستعمار وينبغي التخلّص منها. ومنعتْ الحكومة المدرّسين من التحدّث باللغة الدارجة في الفصول، في إطار سياسة (نشر الثقافة المغربيّة)، أو بعبارة أخرى التعريب. ويقول منتقدو هذه السياسة إنها عمّقت الانقسام بين الصفوة الذين يُمكنهم تحدّث اللغة العربيّة الفصحي، وهي اللغة الرسميّة للكتابة وبين من لا يستطيعون ذلك. كما أدّت لترسخ الأميّة نظراً لأن اللغة الدارجة لغة غير مكتوبة ممّا يضطر المغاربة لتعلّم لغة جديدة كي يقرؤوا. ولا يعرف أقلّ من نصف المغاربة بقليل القراءة والكتابة. ويقول خبراء إن نحو 30 في المئة آخرين يعدّون من أنصاف المتعلّمين لعجزهم عن فهم اللغة الرسميّة (العربيّة). ولا يزال للّغة العربيّة مكانة رفيعة بين المغاربة؛ لأنها لغة القرآن، وهي اللغة الجديرة بالاستخدام في الحوارات الحقيقيّة، وفي الشؤون الدوليّة والكتابة الإبداعيّة. ويرى الأجانب أن هذه المكانة تتلاشَى في ظِلّ التناقص بين نشرات الأخبار التي تستخدم اللغة الفصحى والإعلانات التي تعتمد بشكل متزايد على اللغة الدارجة للوصول للجماهير العريضة. وتقول (إلينا برنتيس) وهي رسّامة أمريكيّة ورئيسة تحرير أوّل صحيفة حُرّة في البلاد تُطبع باللغة الدارجة: (إذن لا يهمّكم إنْ كان المواطنون يعلمون ما يجري في أنحاء العالم ولكن تريدونهم أن يشتروا السِّلَع. أمرٌ لا يصدق!).

تُرى هل ما يجري في المغرب لا يجري في المشرق؟ بلى، فدارجة اليَمَن لا أفهمها، ودارجتي أتحدّى أن يفهما أحدٌ من العرب، يَمناً أو شاماً! وكذا دارجات مناطق الجزيرة المختلفة، والخليج، والعراق، وتونس، وهلمّ جرّا. والمفارقة الأخيرة أن قد صار القول بأن العربيّة الفصحى رابطة وحدويّة عربيّة وإسلاميّة ضروريّة، سبّةً بالقوميّة، وربما ب(البعثيّة)، لدى بعض العرب، كما ألمح التقرير، في عصر العلمنة وتذويب الهويّات والانتماءات. على أننا - نحن المشارقة - سبّاقون دائماً، ولا فخر، فلسنا في حاجة رسّامة أمريكيّة لتحرّر صحيفة باللغة الدارجة، لكي تعلّم شعوبنا ما يجري في أنحاء العالم، فالبَرَكة منّا وفينا!

وللقضيّة صلة.

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244

aalfaify@yahoo.com - الرياض


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة