الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th March,2005 العدد : 99

الأثنين 18 ,صفر 1426

مساقات
نَقْدُ القِيَم
(وهل القيم تستخرج من بطون الكتب؟)
د. عبد الله الفَيْفي *
سبق القول في المساق الماضي أن الأخلاق والقيم لا يستقلان عن واقع الحياة، وفق ذلك المنظور الماضوي الذي تأخذ به موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية، (الرياض: دار رواح، 1412هـ = 2000م)، التي تكاد هي نفسها أن تستقل أحياناً عن واقع الحياة، في إصرارها على التشبث بما لم يعد إلا جزءاً من الماضي، فإذا كان ما يشير إليه (ابن خلدون) (1) من أن لكل دولة وحضارة عمراً محدوداً، منطبقاً على القيم وهو كذلك فما محاولة إحضار بعض القيم من خزائن الماضي، وقسرها على غير عصرها، أو قسر غير عصرها عليها، إلا ضرب من (التحنيط)، وإن التحنيط لا يغني من الحياة شيئاً!
ولسوف يلحظ القارئ في موسوعة القيم خطاباً موازياً للخطاب السابق المعلي من شأن الماضي على الحاضر يتمثل من مقدمة الموسوعة في ثامناً: رؤية مستقبلية (للقيم). إذ يقرأ: لابد للمثقفين العرب من... التعامل مع الحقائق معاملة علمية، بدلاً من الهروب الى الماضي، والبحث في مسألة الخصوصية المحلية.. حتى لا تصير الخصوصية ستاراً، يحجب رؤيتنا السليمة للعالم حولنا. (2)
ثم يخوض النص في تحديات العولمة، في تذبذب بين ما يشبه الوهم بإمكانية تسويق القيم العربية والإسلامية عبر انفتاح العالم على الثقافات، وتسليم بأن المنتصر اقتصادياً وصناعياً سيغدو هو المنتصر قيمياً في عالم القرن الحادي والعشرين. خلوصاً الى القول: إن البشرية في الحاضر تسعى الى قيم إنسانية أساسية، مثل: العدالة الاجتماعية والمساواة، والحرية، والتسامح (3) غير ان هذا الجزء من مقدمة (الموسوعة) يختتم بسطرين نافرين عما تقدم، يعيدان القارئ الى مثل ما ابتدأت به الموسوعة من خطاب، وهما:
هذه الحقيقة ينبغي أن نعيها، وأن نعد لها ما ندرأ به التأثير السلبي على ثقافتنا وموروثنا الأخلاقي والقيمي (4).
وكأن هذا المشروع يرى في عمله إعداداً لدرء الخطورة الكامنة في غزو قيميّ. إلا انه قد اتبع أسلوبا توجيهيا إرشادياً، يأتي في ذيل أساليب التأثير في القيم، إن كان له من تأثير! ذلك أن أنجع الأساليب في تغيير القيم كما يراها العديد من المفكرين الأوروبيين والأمريكيين، ولا نذكر هؤلاء عن إكبار لهم إلا من حيث هم الذين بحثوا في القضية تتمثل في مثل: التخاطب الجماهيري، وأسلوب السوسيو دراما، والقصص، إضافة الى عامل أساس، وهو: التنشئة الاجتماعية (5). وهي آليات نصيبنا منها فقير، إن وجد! ثم إن منطق الأشياء يشير إلى أن القيم الحقيقية التي تتبناها أمة حية، ليست بتلك التي تجتبلها اجتلاباً من أسلافها، ولا تلك التي تستوردها استيراداً من غيرها، لكنها القيم النابعة من قلب المجتمع، متساوقة ونظام الحياة، متصلة مع ضرورات الناس، متفاعلة بها. وتلك هي القيم القمينة بهذا الاسم، الحريَّة بأن تحفظ على الأمة كيانها وشخصيتها. وإذا كان كذلك، فما لأمة ضعيفة بين الأمم من قيم أصلاً من هذا النوع المشار إليه!
وفي العموم، فإن قارئ الخطاب العربي السائد في الموازنة بين القديم والحديث لن يفاجأ بتلك الصورة (الطوباوية) عن المجتمع العربي القديم، بقيمه(التي كان المجتمع العربي يقدسها ويحترم أهلها ومنتحليها)، كما تذكر الموسوعة تقابلها تلك الصورة الكريهة للعصر الحديث، الذي اندثرت فيه تلك القيم وبعض الأسس والمقومات المصاحبة لكثير منها (6). فمصدر القيم الفاضلة إذن هو حسب الموسوعة الماضي زمناً والعرب جنساً. وفي هذا تظهر المغالاة الفطرية المألوفة في نظرة كل جيل الى سابقيه ولاحقيه، وكل ثقافة الى قيمها مقارنة بقيم الشعوب الأخرى. غير أنه من المستغرب أن تظل هذه المغالاة سارية في خطاب المثقّف الذي قرأ الماضي وعرف الحاضر، وخَبِر ثقافات أخرى، وتربى حسه النقدي على رفض التسليم بصور نمطية سائدة، تمجد الذاكرة والذات، وتنتقص الحاضر والآخر.
وهو خطاب لم يعد مقنعاً لعامة الناس فضلاً عن خاصتهم، في عصر مفتوح على الثقافات، يستطيع فيه الإنسان ان يدرك أن للأمم الأخرى قيمها التي قد تختلف جزئياً عن قيمه لكنها حتماً تشترك معها في أمور إنسانية كثيرة، ويعلم كذلك أن ما يراه نقصاً في قيم الآخرين يرى الآخرون مثله من النقص في قيمه. والمعيار العدل بين الطرفين عندئذ لن يكون سوى (العقل)، الذي لا تمايز فيه بين الشعوب، بل سيعرف ان ما يتغنى به من مثاليات قيمية قد لا تكون بمتحققة على صعيد الواقع، لا في ماضيه ولا في الحاضر. ولذلك فإنه حين يتساءل عن تلك الصورة الرائعة التي يُتحدث عن تحققها في الواقع العربي والإسلامي قديماً لا يجد في شواهدها إلا شعراً، همه كما يعرف كل من خبر الشعر، وكان يفترض في هؤلاء الذين عولوا على الشعر في رصد القيم العربية في (موسوعة القيم) أن يخبروه جيداً (النمذجة) المثالية أكثر من كشف الحقائق الواقعية.
أي ان القارئ لو أخذ بالصورة النمطية في بعض الشعر عن المجتمع الجاهلي، على سبيل المثال، لوقر في نفسه احياناً ان المجتمع الجاهلي كان من أرقى المجتمعات التي عرفها الإنسان، في كثير من مُثُله وقيمه. مثلما انه لو اخذ بما يقوله شاعر في قصيدة مدح وصدق ما فيها، لا أعتقد ان ذلك الممدوح ملك من الملائكة لا بشر يخطئ ويصيب.
لكن لو نحّي الشعر جانباً، واستقرئت القيم العربية عبر تاريخها من خلال وثائق أخرى أما تُراه يستكشف واقع المجتمع العربي بنقائصه كأي مجتمع آخر؟ فمتى سيخرج العرب من عباءة الشعر ليدركوا العالم من حولهم؟! لقد عولوا على الشعر قديما في دراسة الثقافة العربية بجميع أوجهها، دونما التفات الى خصوصية الشعر في تناول قضايا الإنسان. وها هي تي اليوم (موسوعة القيم ومكارم الأخلاق) تعول على الشعر لإيهام القارئ بأن نموذجية الشعر كانت واقعا يمشي بين الناس. ولقد وقف أمام هذا المفارقة من قبل (طه حسين)، في كتابه حول الشعر الجاهلي، حينما أخذ يناظر بين صورة العرب في القرآن الكريم وصورتهم في الشعر الجاهلي، فشك في الأخير لأنه لا يمثل شخصية العربي كما يصفها القرآن. إذ يبدو من فعل طه حسين أن الأمة العربية قد بلغت من تلبسها بالشعر درجة لا تستطيع معها التفريق بين لغة الشعر ولغة الواقع، فهي إما أن تسقط الشعر أو أن تسقط الواقع اذا لحظت تعارضاً بينهما، من حيث صارا يمثلان في وهمها بنية واحدة، لا انفصام فيها.
وإذن يتبدّى الخلل في تصور القيم ماهية واستدلالا، فإذا كانت الموسوعة قد صادرت على أن القيم ثابتة ثبوت الجبال، أزلية أبدية، كل محدثة فيها بدعة وكل بدعة ضلالة، فلقد استدلت على وجودها الأزلي من بطون كتب التراث الشعري غالباً ثم رمت الى بعثها من تلك البطون، شراباً جديداً، مختلفاً ألوانه، فيه شفاء للناس (23:1).
وهل ثوت القيم في بطون الكتب إلا بسنة كونية من التقادم والفناء، وسنة طبيعة فنية من المثالية الشعرية؟! وهل القيم تستخرج من بطون الكتب؟ أم تفرضها محركات الواقع، وقوانين الحياة، ومقتضيات التفاعل الإنساني الحي؟!
(والحديث مستمر)
إحالات:
1 ابن خلدون، 2001 مقدمة ابن خلدون، تح. درويش الجويدي (صيدا بيروت: المكتبة العصرية)، 158160
2 موسوعة القيم، 100:1
3 م.ن. 102:1
4 م.ن
5 انظر: كلاب، إلهام، 1994،(نسق القيم في لبنان)، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، ع 183، ص 108109
6 انظر: موسوعة القيم، 20:1


* aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الملف
الثالثة
مكاشفة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved