الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 28th November,2005 العدد : 131

الأثنين 26 ,شوال 1426

مساقات
لا حياء في العلم!
د. عبد الله الفَيْفي

تحدثت في المساق الماضي عمّا ذكره الأستاذ الأديب عبدالله بن إدريس- رعاه الله - في مقاله بعدد الجزيرة (12073، الثلاثاء 15 رمضان 1426هـ)، بعنوان «الفيفي.. والمفردات اللهجية المحرجة!!»، حيث قال: «وكان من غرائب تلك اللهجات التي لم نسمع بها في نجد أو الحجاز.. ما يجعل مدلولاتها في بعض تلك المناطق أو الأقاليم وخاصة في تهامة والجنوب.. متباينة كل التباين اللهجي عندنا في نجد - على الأقل».
وأواصل القول: إنّ ما أومأ إليه الأستاذ، ولم يصرّح به في مقالتيه، ليس محرجاً، ولا أعجمياً، ولا حِمْيريّاً، فتلك لغة العرب كانت تستعمل الكلمة الأولى التي استنكرها، وتتخذ منها أسماء، ونعوتاً، وألقاباً، لكثير من الأعلام، من مَوَاطِن، ومشاهير من العلماء، والشعراء، والصحابة، والتابعين - كما رأينا في الحلقة السابقة. فهي إذن ليست وليدة لهجةٍ جنوبية، بل هي مستعملة على امتداد تراثنا العربي والإسلامي، وفي سياقات شتى. فهل نشطب كلمةً اليوم من معاجمنا؛ لأنّها صارت تعني شيئاً معيباً في بعض لهجاتنا المعاصرة، لا ندري ما أصل التعبير عنه بتلك الكلمة اللهجية، ومن أين جاءتنا، وهل هي عربية أصلاً أم غير عربية؟!
ومع هذا كله، فقد تقدّم في مقالة لي في هذا السياق أنّ اختلاف اللكنة يَحُوْل أحياناً دون تمييز الكلمة المنطوقة في لهجة ما، لم نألفها. بل إنّ النطق اللهجي نفسه قد يحرّف أصوات الكلمات، ولا سيما في الحروف ذات المخارج المتقاربة. ولذا، فلعل الكلمة التي أشار إليها الشيخ ابن إدريس في مقاله هي في اللهجة: «زَغَم، يَزْغَم» - تماماً ك«زَهَمَ، يَزْهَم» في لهجات أخرى - أي «صَرَخ ونادَى». وأنت تجد في (ابن منظور، لسان العرب، (زغم)): «تَزَغَّمَ الجمل»: رَدَّدَ رُغاءه في لَهازِمه، هذا الأصل، ثم كثر حتى قالوا: تَزَغَّمَ الرجلُ إذا تَكلَّم تَكَلُّمَ المُتَغَضِّبِ مع تَغَضُّبٍ. والتَّزَغُّمُ: التغضُّب وتَزَمْزُمُ الشفة في بَرْطَمَةٍ، وتَزَغَّمَتِ الناقةُ. وقال أَبو عبيد: التَّزَغُّمُ التغضّب مع كلام، وقيل مع كلام لا يُفهم، وقال غيره: التَّزَغُّمُ صوت ضعيف؛ قال البَعِيثُ:
وقد خَلَّفَتْ أَسْرابَ جُونٍ من القَطا
زَواحِفَ، إلاَّ أَنها تَتَزَغَّمُ
وقيل: التَّزَغُّم الغضب بكلام وغير كلام؛ أَنشد ابن الأَعرابي:
فأَصْبَحْنَ ما ينطِقْنَ إلا تَزَغُّماً
عليَّ، إذا أَبْكى الوَليدَ وَلِيدُ
يصف جورهنَّ أَي أَنه إذا أبكى صَبيٌّ صَبيّاً غضبْنَ عليه تَجَنِّياً؛ وقال أَبو ذؤيب يصف رجلاً جاء إلى مكة على ناقة بين نُوقٍ:
فجاء وجاءتْ بينهن ، وإنَّهُ
ليَمْسَحُ ذِفْراها تَزَغّمُ كالفحلِ
قال الأَصمعي: (تَزَغُّمُها صياحها وحدّتها)، وإنما يمسح ذفراها ليسكنها....
وأمّا الكلمة الأخرى التي استنكرها الشيخ، ولم يفصح عنها كذلك، والدالة على طرق الباب، (ولتُراجع مقالته المشار إليها أعلاه)، فأهون شأناً. ولئن لم نجدها بحرفها الثالث في كتب اللغة، فإنما هي حكايةٌ لصوت الطرق على الباب، أو دقّه، أو «طقّه»، تُستعمل في ذلك، كما تُستعمل في حكاية صوتٍ آخر، حسب لهجةٍ أخرى، وهو ما دفع الشيخ إلى استقباحها. ويمكن القول هنا إنّ أي كلمة تستخدم في لهجة بمعنى، على حين لها في لهجة أخرى معنى غريب أو قبيح، أمثالها ونظائرها معروفة بكثرة في الفصحى، من نحو كلمة «صَقَعَ»، التي تعني «ضَرَب»، وتعني في الوقت نفسه ذلك المعنى الذي استقبحه الشيخ. بيْد أنّ أحداً لم يستنكر قطّ استعمالها في المعنى الثاني بما أنها قد جاءت مستعملة في المعنى الأول! وأشباه هذا معروفة في مختلف اللهجات واللغات. غير أنّ حكاية أصوات الأشياء عموماً لا وجود لها بالضرورة في معاجم اللغة، وإنما هي تعبيرات مرتجلة، بحسب الصوت ومقام التعبير. ومع هذا فأنت تقف على تسجيل ذلك في بعض الكتب، من قبيل: قول (ابن أبي حجلة (-776هـ = 1375م)، ديوان الصبابة)، على سبيل المثال: «... فقد حصحص الحق وقرع العتاب حلقة الباب، فقال: طق.»
وفي (النويري، نهاية الأرب) في سياق مقتل (عثمان): «... وكان على باب، وإن رأسه كان على الباب يقول: طق طق...»
وشبيه بهذا ما يرد من حكاية أصواتٍ أخرى، لا نجدها في المعاجم، كحكاية أصوات المعترك العجيب الذي عبّر عنه (ابن الحلاوي الموصلي، - 656ه)، والذي انتهى ب «طبّ طرطبّ فوق رأسه»، وذلك في أبياته:
فالدّفُّ دف دف ددف ددف دف
والزّمر تلّى تلل تلالي
والجنك دن دن ددن ددن دن
تصلحه ربّة الحجالِ
قلت له إذ أطال وعدي
ولجَّ في العذل والمطالِ
دع التّجنّي فلست أسلو
أخ أخ أخٍ يا محالي
فطبّ طرطبّ فوق راسي
وطاق طرطاق في قذالي
وتفّ تخ وسط وجهي
وقاع قع قاع في سبالي
ومن هذا القبيل أيضاً تلك القصيدة الطويلة للشاعر الأندلسي، أبو عبد الله بن الأزرق، التي يقول فيها:
أفدي صديقاً كان لي
بنفسه يسعدني
فتارةً أنصحه
وتارةً ينصحني
وتارةً ألعنه
وتارةً يلعنني
فربّما أصفعه
وربّما يصفعني
طقطقْ طقنْ طقطقْ طقنْ
أصخْ بسمعِ الأذنِ
قحقحْ قحنْ قحقحْ قحنْ
الضحكُ يغلبني
أضحكتُ والله بذا ال
حديث من يسمعني
دهرٌ تولّى وانقضى
عنّي كطيف الوسن
يا ليتني لم أرهُ
وليته لم يرني
كأنّني ولست أد
ري الآن ما كأنّني
والله ما التشبيه عن
د شاعرٍ بهيّنِ
فاسمحْ وسامحْ واقتنعْ
واطوِ حشاكَ واسكنِ
ولننصرفْ فقصدنا
إطرافَ هذا الموطنِ
ولا غرو، فقد كان من الحب الأندلسي ما صَفَع!
فما أَلْمَحَ إليه الشيخُ إذن ليس إلا حكاية صوتية من قبيل: «طقطقْ طقنْ طقطقْ طقنْ... قحقحْ قحنْ قحقحْ قحنْ». على أنّ القصيدة هذه تحمل من غرائب المفردات، في أسماء الأطعمة الأندلسية، أو التقاليد الاجتماعية، ما لو ذُكر هنا لكان مستنكرا، بحكم ما لها من معانٍ باختلاف لهجاتنا وأقاليمنا.. أ لأنّ بين اليمن والأندلس صلةً قديمة، وبين المغرب وجازان علاقة حديثة؟!.. بل الأصح أنْ لا جديد أصلاً في المسألة تحت الشمس!
وها أنا ذا قد حاولتُ أن أجيب عن تساؤلات والدنا المفضال، الشيخ عبدالله بن إدريس. وأعده بالاستمرار في هذه البحوث اللهجية، بما لها وما عليها، مع بيان أصلها وفصلها، ما استطعت.
والله المستعان.


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
قضايا
حوار
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
سرد
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved