الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 30th August,2004 العدد : 74

الأثنين 14 ,رجب 1425

مساقات
العامية ومستقبل الفصحى
د. عبد الله الفَيْفي
ظاهرة الشعر العامي ما أسبابها وما مدى خطورتها؟ تلك حكاية تطول. بدأتْنا منذ القرن السابع الهجريّ، وخلال تلك الفترة من حياة الثقافة العربية التي سُميت بعصور الانحطاط. يوم أن وَجَد الشاعر نفسه في مهبّ الريح، بعد ما اعتاد من ارتباطٍ ببلاط السلطة وارتزاقٍ بشعره لديها، حيث لم تعد أمامه سوى بلاطاتٍ أجنبية وحكامٍ أعاجم أو شبه أعاجم، لا حَظَّ لهم من العربية وإن كانوا مسلمين. وكان الشعر قد صار في كثير منه لدى العرب تجارة. فلم يجد الشاعر بُدًّا من أن يتقرّب إلى الحاكم بما يَفْهمه من لغة، وإن كانت عامية عربية أو أعجمية. وتلك البدايات كانت ترادفها عوامل أخرى من انحدار الثقافة العربية والحضارة الإسلامية عموماً، ومن تفشّي الأمية والجهل والعزلة بين أرجاء الوطن العربي. فنما ذلك الشعر، لتلك الأسباب التاريخية والثقافية.
أمّا استمراره اليوم، فإن كان لدى فئاتٍ لماّ تزل تعيش تلك الأسباب الثقافية، من الجهل والأمية، فذلك أمر طبيعي. لكن من غير الطبيعي أن نجد إنساناً متعلّماً، وقد يحمل أعلى الشهادات، ثم إذا هو يجترّ اللغة الشعرية التي كانت تستعملها جدّته وجدّه الأُميّان. من غير الطبيعي ذلك، إلا إن كان هذا الإنسان شخصاً يعاني انفصاماً فكريًّا ولغويًّا وثقافيًّا، هو في جوهره انفصام في النسق الثقافي العربي بعامّة. ولا ننسى أن الشعراء ما يزالون يتبعون غوايات الارتزاق، والشهرة، والجماهيرية، والشعبية، أينما وجدتْ، وبأي ثمن جاءت،
لا سيما حينما لا يعصمهم وعيُهم الثقافي أو ضميرُهم المعرفيّ عن التردّي في أتون الهاوية. وسيأتون بكل حجة ممكنة أو غير ممكنة لتسويغ ممارستهم، من قبيل: الجماليات الكامنة في اللهجة العامية، مع أن الجماليات اللغوية كامنة في كل لغة خلقها الله، أفيبرر ذلك أن نستبدل لغتنا بلغة أخرى؟û!، وإن كانت من جنس لغتنا؟! أو سيقولون لك وهذا هو الشائع في بلدان الخليج إن الشعر العامي يحمل تاريخاً وتراثاً مهمًّا. وإذا كان هذا مسلّماً به عن شعر ما قبل مائة عام، فما بالهم ما انفكّوا يتناشدونه إلى الآن، مع أنه لا يمثّل لا تاريخهم الراهن ولا تراثهم الذي سينعكس عنهم في المستقبل؟! طبعاً، سنستبعد ها هنا من المناقشة تلك الأصوات المغرضة وراء الشعر العامي واللغة العامية؛ لأنها مكشوفة الأوراق ولا تحتاج إلى تعليل أو تعليق. أمّا خطورة الشعر العامي، فتزداد اليوم لأنه يُكتب على نطاق واسع. وما من أدب تحوّل إلى لغة مكتوبة إلا كان ذلك إرهاصاً بتحوّل لهجته إلى لغة قائمة بذاتها. وهل وُلدت اللغات الأوربية مثلاً إلا من رحم عامياتٍ كوّنتْ لها آداباً مكتوبة ومن ثم أضحتْ لغاتٍ ذاتَ تراثاتٍ مستقلة؟! فاللغة عامل توحيدٍ للناطقين بها ما بقيت لغة واحدة، عامل تفريق لهم متى انقسمتْ إلى لُغيّات. ولذا فإن خطورة اللهجات العامية تتجاوز القضية اللغوية البحتة إلى قضايا الوحدة الوطنية والقومية.
والتيار العاميّ لدينا الآن سائر ضدّ تلك المبادئ، جملةً وتفصيلاً، فبالإضافة إلى المجلات، والصحف، والكتب، والدواوين التي يغرق السوق اليوم في طوفانها، تقام الأمسيات، والندوات، والمهرجانات في كل مكان. ثم هناك من ينادى ببثّ قنوات فضائية للأدب العامي. وعلى الرغم من كل هذا
الضجيج، الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ العربي، فالمعتقد أن خطورته لا تعدو إعاقة تقدّم الفصحى وشيوعها. وإلاّ فالعامية محكومة في النهاية بالانقراض، لأسباب عديدة. أهونها أن الشاعر العامي يناطح صخرة التاريخ، والجغرافيا، والواقع الراهن. لأن رصيده التاريخيّ صفر. وشعره إفرازٌ وقتيٌّ عابر، فمن سيفهم عامية اليوم بعد مئة عام؟! وانتشاره الجغرافي محليٌّ محدود، حتى في داخل القطر الواحد.
وعلاقته بواقع الحياة، بل حتى بواقع قائليه أنفسهم، باهتة فقيرة إن لم تكن مُنْبَتَّة.
لذلك لا يبدو أكثر من محاولة يائسة لاسترجاع اللاوعي الجمعي، ماضياً قَبَلِياًّ أو شعبياًّ، أكل الدهرُ عليه وشرب.. وعمل أشياءه الأخرى.
فكيف يمكن أن يُستشرف مستقبل الفصحى؟ كما مرّ من قبل، مستقبل أيّ لغة مرهون بمستقبل أهلها.
ذلك أن اللغة إذا استطاعت فَرَضاً أن تتغلّب على أدوائها الذاتية، في الإعلام والتعليم والاستعمال فإنها لن تستطيع الدفاع عن نفسها من الغزو الخارجي، المتمثّلة أولى درجاته في الازدواج اللغوي، بين العربية وغيرها من اللغات. وبالقياس إلى الشوط الذي قطعته اللغة الفصحى عبر قرنها الماضي، أي منذ بدايات القرن العشرين إلى الآن، يستطيع المرء التفاؤل بأنها إلى تحسّن نسبيّ لا إلى تدهور، ولكنه تحسّن بطيء جدًّا، منغَّص بشتى المعوّقات.
وما دام التعليم بالعربية الفصحى (غالباً)، والكتابة بها، والإعلام (في معظمه) بها، وما دامت النُّخَب المتعلّمة في ازدياد، فبإمكان المرء أن يزعم أن المستقبل سيكون حتماً للفصحى لا لأيّ عامية عربية. تبقى المشكلة مع اللغات الأخرى التي تقتحم على العربية ألسنة أبنائها.
والتنبّؤ بمصير العربية في هذا المعترك عسير؛ لأنه مرتبط بمكانة العرب من العالم؛ ولأن تاريخهم عبر القرن الماضي لا يبشّر بخير؛ بالنظر إلى إخفاقهم في التقدّم خطوة نحو ما يحمي اللغات حقًّا من غائلة اللغات الأخرى.
العلاقات بين اللغات كالعلاقات بين الدول، منها علاقات مشروعة وضرورية ونافعة، ومنها ما هو ضرب من التدخّل في الشؤون الداخلية ونوع من الاستعمار.
وهذا هو ما يترصّد العرب كما يترصّد لغتهم، (حتى يغيّروا ما بأنفسهم)! إن الأمة التي تستخفّ بلغتها أو لا تكترث بشأنها تكون أمة قد فقدت أساساً أبسط درجات الاحترام للذات.
ولتبيّن هذه الحقيقة لنقارن أنفسنا مثلاً بما توليه فرنسا من عناية بلغتها وجهاد في سبيل تلافي مزاحمة الإنكليزية إيّاها.
أو لنقارن حرصنا على العربية بحرص الإنكليز أو الأمريكان على لغتهم، وكيف يُكتب مثلاً في انتقاد أخطاء جورج دبليو بوش الخطابية النحوية أو أخطاء توني بلير اللغوية والإملائية.
لكن التخلّف دائماً يؤدي إلى الحَوَل الذهني أو رؤية الصور مقلوبة! والإعلام في كل العالم خطير الأثر في العلوّ أو الهبوط باللغة. وهو في ذلك أخطر من التعليم، لأنه مستمرّ البثّ، واسع الانتشار، وعميق التأثير.
إنه حياة الناس وغذاؤها اليومي، على شتى المراتب الاجتماعية والمشارب الثقافية.
فماذا ترانا في العالم العربيّ نمارس بهذا السلاح ذي الحدين؟! أمّا التعليم فإن أُحسن الظنّ بدوره في مستقبل الفصحى، تبدّى تقصيره الفاضح في مراحل التعليم الأولى، لا من حيث المناهج فحسب، ولكن من حيث تأهيل المربّين.
حتى إذا طرق الطالب أبواب الجامعة، قفز السؤال: أين كانت العربية في وزارة التربية والتعليم عبر ما قد يزيد على اثنتي عشرة سنة من عمر الطالب؟! كيف أُجيز الطالب كل تلك السنوات، وأعطي الشهادات والتقديرات، وهو شبه أُمّي، أو هو أُمّي فعلاً، لا يقرأ ولا يكتب؟! فالتعليم الجامعي هو تتويج لمحصلة تراكمية منذ 'الحضانة'، أو قبل ذلك منذ طفولة البيت الأولى. ولذلك فالخطورة الأكبر هي لتلك المراحل الأوّلية.
وأستاذ الجامعة اليوم يعاني من تركة ثقيلة تُلقى على عاتقه، ليُصلح ما أفسده الدهر، حين يجد نفسه أمام طلبة لو أراد أن يعلّمهم حق التعليم لتوجّب عليه أن يعود بهم إلى تلك الأبجديات التي يُفترض أنهم قد تلقّوها منذ بداياتهم.
ذلك أن ضعف الطالب الجامعي في اللغة العربية تتحمل إثمه المراحل السابقة، وإنما دور الجامعة استتمام تعليم الطالب المتوقّع فيه التأهيل الجيد وتعميق تخصّصه في حقل معرفي من الحقول. فإن كان تأسيسه متدنّياً، فلا سبيل إلى معالجة وضعه، وما عليه إلا أن يتقبل النصح بالبحث له عن مكان صالح غير الجامعة.
أمّا ضعف الطالب اللغوي بصفة خاصة فسيعوقه عن التحصيل في مختلف المواد، لأن اللغة متلازمة مع الفكر الإنساني، أداء واستقبالا. وملكات الإنسان على تعلّم أي لغة تتناقص كلما تقدّم به العمر.
ومن هذا المنطلق يظهر أن المؤسسة التعليمية العربية، حين تستهين بأهمية المراحل التعليمية ما قبل الجامعة، فتكلها إلى كفاءات أقل علماً وخبرة، إنما هي تضع بذلك (الحصان خلف العربة).


aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved