الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 31th May,2004 العدد : 61

الأثنين 12 ,ربيع الثاني 1425

مساقات
سؤال المرأة
في النقد العربي!
د. عبد الله الفَيْفي

..والفحولة الشعرية لدى العرب مشتقّة من الفحولة الذكوريّة، وأنّى لأُنثى أن تغدو شاعرة فحلة! فذلك في عرفهم نقيض أساسيّ لطبيعتها، حتى لقد عبّر الأصمعي في كتابه (فحولة الشعراء) عن استهجانه شعر عَدِيّ بن زيد العبادي، وقد سئل عنه: أفحل هو؟ فقال: (ليس بفحل ولا أنثى)! أي أنه في فقه الشعر والشعراء: (خنثى مشكل)، بمعايير الأصمعي، وما يمثله الأصمعي من قيم ثقافيّة.. أو أنه، أي عَدِيّ بن زيد، ليس بفحل ولا حتى بأنثى، فهو عنده: لا شيء! وناتج ذلك بعضه أسوأ من بعض! ولرب قائل اليوم يقول: (ألا ليت القديم يعود حيًّا، فنخبره بما فعل الحديثُ).. فما أشبه البارحة باليوم!
لهذا لم يكن مستغرباً أن لا يُعترف لمهلهل بن ربيعة بالفحولة، ما دام فيه وفي شعره (خنثٌ ولين)، كما وصفوه، وكان كثير المحادثة للنساء، حتى سمّاه كليب: (زير نساء).
وإذا كان التعارض قد قام لديهم بين مفهوم الهلهلة والفحولة بين شاعرين ذكرين، فلا بدّ أن لا يبصروا إلاّ التنافي بين الفحولة والأنوثة. ومن أجل هذا، وعلى الرغم من أن الأسئلة كانت تتوارد عن فحولية مختلف الشعراء، كبيرهم وصغيرهم، قديمهم وحديثهم، فإن الخنساء لا سؤال عنها البتة لدى نقادنا القدماء. إذا عُدَّت، عُدَّت في ذيل عشر طبقات شعرية مقدّمة من الجاهليين والإسلاميين، وذلك ضمن طبقة أصحاب المراثي التي تأتي مباشرة قبل طبقة شعراء القرى واليهود مُقَدَّماً عليها في الرثاء متمّم بن نويرة. (انظر: ابن سلام الجمحي، طبقات الشعراء). وإذا جاء التساؤل عنها جاء على استحياء في سياق المفاضلة بينها وبنت جنسها، ثانية اثنتين، الشاعرة (ليلى الأخيلية).
إن المرأة سؤال غير مطروح أصلاً في السياق العربي، وفق القِيَم الثقافية التي كان يتبنّاها كلا السائل والمسؤول.
ومع شهاداتهم للخنساء بالشاعريّة حيث يصفها (النابغة) بأنها أشعر الجنّ والإنس، لولا أبو بصير، ويصفها (جرير) بأنها أشعر الناس، وأجمعوا على أنها أشعر نساء العرب، وذهبوا إلى أنها لم تكن امرأة قبلها ولا بعدها أشعر منها، متفقين على الإعجاب بها، جاهليين وإسلاميين، وعلى رأسهم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، (انظر: ابن الشجري، حماسة ابن الشجري) مع ذلك كله لم يكن من سبيل لمساواتها بطوال الشوارب من الشعراء الرجال! لأنه قد اختلّ أمامهم معيار الشعرية في شعرها، ليس لكونه رثاءً صرفاً، يفتقر إلى التقاليد البنائية الفحولية للقصيدة العربية وعلى رأسها مقدمة الأطلال والنسيب، وهما عنوان الفحولة لا الأنوثة فحسب؛ لكن أيضاً لأن صاحبة ذلك الشعر كانت (امرأة). أي أنهم يعتدّون بشعريّتها حينما يخلصون إلى أنفسهم من وطأة القِيَم الثقافيّة التقليديّة، خلا أنهم ما يلبثون أن يتوقّفوا إزاء نموذج مختلف، لا فحوليّ حسب أعرافهم: صاحبته امرأة، وقد كسرتْ القالب البنائي التقليدي الذكوريّ بأنماطه الجاهزة المألوفة، فوحّدتْ القصيدة في بناء عضوي يدور حول قضية الموت وأثره على نفسية الأنثى بناءٍ تظلّ تغذّيه وتنمّيه الشاعرة فِعْلَ الرحم الأموميّ بالجنين. وهو نهج كان في الاتجاه المعاكس تماماً للفحوليّة، إنْ على المستوى النفسي للشاعر أو على المستوى البنائي للقصيدة.
تلك المعايير الفحولية لم تكن لتستوعب إذن هذا المختلف (الخنساويّ)، الذي يحيل القصيدة إلى لوحة تشكيلية تتولّد حيّة كهذه مثلاً إذ تقول عن أخيها صخر وأبيها:
جارَى أباه ، فأقْبلا وهُما
يتعاوران مُلاءةَ الفَخْرِ
حتّى إذا نَزَتِ القُلُوبُ وقدْ
لزّتْ هناك العُذْرَ بالعُذْرِ
وعلا هُتافُ الناسِ : أيّهما؟
قال المُجيبُ ، هُناكَ: لا أدري
برزتْ صحيفةُ وجهِ والدهِ
ومضى على غلوائهِ يجري
أَولَى فأَولَى أن يساويَهُ
لولا جلالُ السّنّ والكِبْرِ
وهما.. كأنهما.. وقدْ برزا
صقرانِ قد حَطّا على وَكْرِ
فلقد جاء لقب الخنساء فرزاً عنصريّاً لهذا الضرب من الشعر الأنثوي المختلف عن الشعر الفحولي، اختلاف الأنوثة عن الذكورة.
ولهذا السبب نفسه كان انتصار المنتصرين لها انتصاراً منقوصاً بغير وجه تعليليّ واضح، إلاّ بأن يقول النابغة مثلاً، بعد أن أنشدتْه عقب الأعشى وحسّان: (لولا أن أبا بصير أنشدني آنفًا لقلتُ: إنكِ أشعر الجنّ والإنس). أو (والله ما رأيتُ ذات مثانة أشعر منك). وما الإشارة إلى (المثانة) هاهنا إلا ازدراء للمرأة في معرض المدح! أمّا تقديمها على الشاعر الفحل حسّان بن ثابت فحكاية لعبتْ وراءها العصبية القبليّة ما لعبتْ. ولعلها لم تصدر عن حكومة النابغة في سوق عكاظ، ولكن عن أجواء الصراع القبليّ القيسيّ اليمانيّ في البصرة، إبان العهد الأموي؛ لتوظَّف للانتقاص من شعرية اليمن، بحيث لم يُعدل شاعرُه بشاعرٍ قيسيّ ولا حتى بشاعرة قيسيّة! ذلك الموقف الذي تزعم الحكاية أن حسّاناً قد خنس له أو أنه أُحنق، فقال للنابغة: (والله لأنا أشعر منك ومن أبيك ومن جدك!)؛ ثم قال النابغة: (للخنساء أنشديه، فأنشدته، فقال: والله ما رأيتُ ذات مثانة أشعر منك! فقالتْ له الخنساءُ: والله، ولا ذا خُصْيَيْن!) كأنها تلمز بدورها حسّاناً؛ بقرينة ردّ حسّان في بعض الروايات: (أنا والله أشعر منكَ ومنها). ثم شرع النابغة ينتقد مشهورة حسّان التي جاء يُدِلّ بها دون سائر شعره: (لنا الجفنات الغرّ)، حتى (قام حسّان منكسراً منقطعا)، كما تزعم الرواية. وممّا يؤكّد اختلاق هذه الحكاية، وأنها لا تعني شيئاً في تقديم الخنساء، أن اليمانيين قد انتصفوا من النابغة والقيسيين جميعاً بحكاية مقابلة، تزعم أن النابغة إنما تعلّم نظم القوافي لدى قوم حسّان من الأوس والخزرج، حيث لم يكن ليُحسن التخلّص من الإقواء في قوافيه إلاّ بعد أن زار يثرب، فعاد وهو يقول: (وردت يثرب وفي شعري بعضُ العاهة، فصدرتُ عنها وأنا أشعرُ الناس). فهذه بتلك! ولا اغترار إذن بتلك المؤشرات الظاهريّة على الاعتراف بمزاحمة الخنساء للفحل في سوق عكاظ.
ولأنّ لقب الخنساء لقبٌ فنّيّ جاء حيلولةً قيميّة لنفي الاختلاط بين شعر النساء وشعر الذكور، وحتى لا تلتبس آلهة الشعر أو شياطينه الخنساويّة الشمسيّة بآلهته أو شياطينه الفحوليّة القمريّة فإن لقب (الخنساء) قد اخُتصّتْ به هذه المرأة الشاعرة الفذّة التي تحدّت الرجال في عُقْر سوقهم الفحوليّ ولم يكن من قبلها اسماً معروفاً في النساء أو لقباً، كما لم تكن من قبلها امرأةٌ معروفةٌ فعلتْ فعلها في سوق العرب.
ومهما يكن من قول حول تلك الأسباب الثقافية وراء بعض ألقاب الشعراء الجاهليين، فإن ألقاب الشعراء لتدلّ أيضاً كما تبيّن من درسها في المساقات الماضية على وعيٍ نقديّ لدى العرب بكُمُون شخصية الشاعر في شعره وإنْ ناقض ظاهريّاً سلوكُه شِعْرَه ومن ثم اعتبارهم لبنية السياق الشعري، وأن العمل الأدبي لا يستقلّ عن سياقه النفسيّ أو الاجتماعيّ أو الثقافيّ. (انظر في هذا مثلاً: سبندر، ستيفن، (د. ت)، الحياة والشاعر، تر. مصطفى بدوي (القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية)، 64 66؛ تودوروف، (1990)، الشعرية، تر. شكري المبخوت ورجاء بن سلامة (الدر البيضاء: دار توبقال)،
مقام:
متى فيكِ يفْنى السؤالُ، ليحيا
جوابُ الأنوثةِ فيّ سَويّا ؟!

aalfaify@hotmail.com

الصفحة الرئيسة
أقواس
فضاءات
قضايا
تشكيل
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved