Al Jazirah Magazine Tuesday  26/02/2008 G Issue 255
دراسات
الثلاثاء 19 ,صفر 1429   العدد  255

كتابة لغة الإشارة .. وآمال الصم

* د. محمد ابوشعيرة *

يعتبر تدني مستوى الصم الأكاديمي خصوصا في مجالات القراءة, والكتابة, والرياضيات من المعضلات التي تواجه العاملين في مجال تعليم الأفراد الصم. ويضعهم أمام تحد كبير مع أنفسهم, وأمام الصم, وأمام المشرعين من أجل إثبات فائدة وفعالية الجهود التي يقومون بها. إذ إنه لم يعد من المقبول القول إننا نعمل على تعليم الصم لسنوات طوال ثم نكتشف فيما بعد أن الصم لم يتعلموا, أو أنهم بأحسن الأحوال تعلموا تعليما سيئا لا يمكنهم من تجاوز مستوى المرحلة الابتدائية إلا ما ندر، وبجهود قد تكون غير مرتبطة بالمؤسسات التعليمية التي تشرف على تعليمهم.

لهذا فإن الباحثين في مجال تعليم الأفراد الصم (صغارا وكبارا) ما فتئوا يبحثون عن طرق وأساليب تعليم ترفع من مستوى الصم الأكاديمي, وتمكنهم من التعلم الذاتي، وتساعدهم على القراءة والكتابة بطريقة تتفق مع لغة الإشارة التي يستخدمونها في الحياة اليومية، والتي يتعامل بها الأفراد الصم فيما بينهم، وفيما بينهم وبين الأفراد السامعين, والذين يضطرون للتعامل بها مع الصم مهما كانت قدرتهم على التواصل بلغة الإشارة رديئة والعاملون مع الصم يلاحظون كيف أن السامعين الذين يتعاملون مع الأفراد الصم يتصببون عرقاً وهم يحاولون إيصال معنى من المعاني خلال الإشارة إلى الأفراد الصم.

ومن الطرق الحديثة في تعليم الصم ما يعرف الآن بطريقة كتابة لغة الإشارة Signwriting وهي عملية يتم فيها تحويل لغة الإشارة الوصفية, وتعابير الوجه, وإيماءات الجسم إلى رموز بصرية يمكن كتابتها وقراءتها.

كتابة اللغة المنطوقة

وقبل الحديث عن كتابة لغة الإشارة نتحدث بشكل سريع عن كتابة اللغة المنطوقة، (هنا نتحدث عن اللغة العربية) وكثير مما ينطبق عليها ينطبق على اللغات المنطوقة الأخرى.

في كتابه مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية والذي نشر عام 1988 يوضح الدكتور ناصر الدين الأسد أن اللغة العربية مرت عليها فترة زمنية لم تكن فيها اللغة مكتوبة, وأنها عندما كتبت تطورت بحيث أنها الآن لا تكتب بنفس الطريقة التي كتبت بها قديما. وأن تطور كتابة اللغة العربية مر بثلاث مراحل ابتداء من القرن الثالث الميلادي، حيث أهمل الكتابات التي تسبق هذا التاريخ بسبب أنها لا تتفق في صورتها وحروفها مع الخط العربي وإن كان ما فيه من حروف منفصلة قد يتفق مع الحروف العربية ويصح أن يكون أصلا لها لقرب الشبه بينهما وهذا ينطبق على لغة الإشارة إلى حد ما, فقد مرت في فترة زمنية لم تكن فيها مكتوبة, وكانت تعتمد فقط على الأداء البشري والصور بأنواعها الثابتة والمتحركة.

ونحن الآن نتحدث عن مرحلة جديدة من تاريخ لغة الإشارة وهي مرحلة كتابة لغة الإشارة, والتي لم تكن موجودة قبل العام 1960 ولا يوجد ما يشير إلى كتابة الإشارة قبل هذا التاريخ.

أن استعراضا سريعا للغة الإشارة، يبين لنا أن أقدم المحاولات المتصلة بتنمية قدرات الاتصال لدى الصم يعود إلى عام 1555 على يد الاسباني (بيدرودي بونسي) والذي بدأ بتعليم أطفال العائلات النبيلة, ثم تلاه اسباني آخر عام 1620 حيث وضع أول قاموس معروف في لغة الإشارة. وفي عام 1755 قام الفرنسي (ليبي شارلو) ببناء أول مدرسة لتعليم الصم في باريس. وقد تعرضت طريقة لغة الإشارة إلى هجوم شديد في القرن التاسع عشر من أنصار الطريقة الشفوية. ففي المؤتمر الذي عقد في مدينة (ميلانو) الايطالية عام 1880 تم منع هذه الطريقة وفرض الطريقة الشفوية، والتي بقيت الطريقة الوحيدة المعترف بها خلال قرن كامل في أوروبا وأمريكا، ولكن قوة لغة الإشارة وأهميتها جعلتها تفرض نفسها مرة أخرى فاستمرت في التطور وأخذ مكانها في مجتمع الصم حتى اعتمد مؤتمر الاتحاد العالمي للصم والذي عقد في (طوكيو) في اليابان عام 1991 لغة الإشارة كلغة أم للصم.

بداية كتابة لغة الإشارة

ظهرت فكرة كتابة لغة الإشارة لأول مرة على يد وليام ستوكو (William Stokoe) عام1960 وسمي حينها (Stokoe Nation)، واستخدم الاختصار SN للإشارة إليه ومع أنه نشر في كتاب خاص إلا أنه لم يلق قبولا واسعا. وكان يستخدم عند الحاجة والضرورة فقط من قبل المتخصصين ولم يتم إعداد نسخة مقننة له أبدا لذا لا يمكن اعتباره نظاما متكاملا ومع هذا فقد استخدم أحيانا لأخذ الملاحظات.

وفي عام 1974 وبناء على طلب من الباحث لارسون فون ديرليث )Larso von dre lieth) وفريقه في جامعة كوبن هاجن في الدنمارك (The University of Copenhagen) طلب من الأمريكية فالري ساتون (Valerie Sutton) إعداد نظام كتابة الإشارة والإيماءات الجسمية فكانت هذه هي بداية نظام كتابة لغة الإشارة باسم نظام ساتون (Sutton System) وقد عرف باسم كتابة الإشارة (Signwriting) واستخدم الاختصار SW للإشارة إليه.

وفي عام 1977 كانت مجموعة المسرح الوطني للصم في أمريكا The National Theater of Deaf (NTD) أول مجموعة تتعلم كتابة لغة الإشارة.

وفي الفترة بين عامي 1975-1985 كانت لغة الإشارة تكتب باليد فقط ولم تكن هناك أي وسيلة لطباعة خطوط الإشارة وكانت هناك صحيفة تكتب باليد بشكل كامل في الأعوام بين 1981-1984حيث كان يستغرق إعدادها ثلاثة أشهر لذلك كان صدورها ربع سنوي. وفي عام 1986 تم إعداد أول برنامج محوسب لكتابة لغة الإشارة اسمه (SignWriter) أعده ريتشارد جليفز (Ritchard Gleaves) وكانت نقطة تحول تاريخية في كتابة لغة الإشارة. أما الآن فيوجد العديد من برامج كتابة لغة الإشارة مثل SWjava وSW-Edit وغيرها.

فكرة إبداعية

إن كتابة لغة الإشارة فكرة إبداعية في تعليم الصم وهي تستجيب للتحدي القائم في تعليم الصم والمتمثل في تعليمهم بلغتهم الخاصة لكن المشكلة كانت في الاعتقاد بأنه لا توجد طريقة تمكنهم من كتابة لغتهم كما أنه من غير المقبول تقبل مستواه الضعيف في كتابة اللغة المنطوقة.

كما أن نظام كتابة لغة الإشارة ليس لغة إشارة جديدة بحد ذاته بل هو كتابة للغة الإشارة المعروفة والمستخدمة عند الصم وهذا النظام يصلح لاستخدامه مع كل لغات الإشارة الموجودة سواء لغة الإشارة الأمريكية أو العربية واليابانية أو غيرها.

وما نفعله هنا أننا نسقط الإشارة (نرسمها) (نكتبها) على وسيلة القراءة المستخدمة من الورق أو اللوحات أو حتى الحاسوب فيستطيع الأصم قراءتها وهنا يتم استخدام كتابة لغة الإشارة لكافة الأغراض التي تستخدم فيها كتابة أي لغة.

وقد تم كتابة العديد من النصوص بلغة الإشارة في تلك الدول للتعليم, وقصص الأطفال، والروايات، والقصائد الشعرية ويوجد نص للكتاب المقدس (الإنجيل) مكتوبا بلغة الإشارة الأمريكية، وتم استخدامها في التعليم في عدد من المدارس في أمريكا وكندا، وألمانيا, والبرازيل، واليابان, وجنوب إفريقيا.. وغيرها.

أهمية كتابة لغة الإشارة

تبدو أهمية كتابة لغة الإشارة كما يلي:

أولا: يكثر الحديث عن ضعف المستوى الأكاديمي للطلاب الصم, والذي يعود في معظمه إلى طرق التعليم المستخدمة مع الصم, وليس لخلل في قدراتهم العقلية، فقد بينت الدراسات أن مستوى التحصيل للصم في القراءة لا يتجاوز الصف الرابع الابتدائي, وفي الرياضيات لا يتجاوز الصف السادس الابتدائي. إذا تم تعليم الطالب الأصم بالطرق التقليدية, فالخلل يعود إلى طرق التعليم وليس إلى قدرات الطالب الأصم، فهو يحتاج في التعلم إلى طريقة تتلاءم مع خصائصه كأصم، مثل فقدان القدرة على السمع والنطق. من هنا جاءت هذه الطريقة (كتابة لغة الإشارة) التي تعتمد على تعليم الأصم بلغته الأم (لغة الإشارة) من غير أن تقحمه بشكل إجباري على التعامل مع مشكلة اللغة المنطوقة، والتي لا يفهمها عادة ويعاني في الأساس من إشكالية التعامل معها بسبب قدرات السمع والنطق المتدنية لديه، وهو أمر ظاهر لكل العاملين في تعليم الأفراد الصم والمتعاملين معهم. وخلال خبرتي في هذا المجال لاحظت ذلك واستمع باستمرار إلى شكاوى المعلمين من هذه المشكلة. وإلى اجتهاداتهم المختلفة في معالجة هذه الظاهرة بغض النظر عن الأساس العلمي لهذه الاجتهادات والتي غالبا لم تكن مبنية على أي بحث علمي يسندها.

ثانيا: إنّ كتابة لغة الإشارة تجعل من الممكن أن يكون لدينا كتب، وصحف, ومجلات, وقواميس, وأدب مكتوب يمكن أن يستخدم في تعليم لغة الإشارة وقواعدها لمستخدمي لغة الإشارة, سواء المبتدئون أو المحترفون بلغة الإشارة.

إن وجود وسائل تعليمية مساعدة غالبا ما يزيد القدرة على التعلم ويزيد الحصيلة اللغوية، ومن هنا فإنه اعتبار كتابة لغة الإشارة وسيلة تعليمية على الأقل يمكن أن يحقق الكثير للطالب الأصم باعتبار لغة الإشارة اللغة الأم للأصم, وأن اللغة المنطوقة هي اللغة الثانية.

ثالثا: تعلم كتابة لغة الإشارة يساعد على تعلم اللغات الأخرى بشكل أفضل. كما أنها تحمي التاريخ, والثقافة, وتعطي عمقا وإنسانية للتفكير, وهذه القضايا (التاريخ والثقافة والتفكير) مرتبطة بشكل وثيق باللغة. إننا يجب أن نحترم لغة الصم وندعمها بالقدر الذي نعتقد فيه بوجوب احترامهم وتقديرهم باعتبارهم أفراداً من المجتمع لهم كامل الحقوق وعليهم كامل الواجبات. ومن مظاهر دعمهم العمل على توثيق ثقافتهم بلغتهم الخاصة.

رابعا: إنّ كتابة لغة الإشارة ستضع الأصم على قدم المساواة مع السامعين الذين يكتبون لغتهم الخاصة ويرون أنفسهم بايجابية أكثر. كما أن كتابة لغة الإشارة ستزيد ثقة الأصم بنفسه، وترفع مفهومه وتصوره لذاته.

الصحة النفسية وتأكيد الذات

إننا نعلم ما لمفهوم الذات من أثر إيجابي على التعلم. وإذا كان تعليم الصم باستخدام لغة الإشارة بحد ذاته يحسن مفهوم الذات، إن كتابة لغة الإشارة ستزيد تأكيد الذات، وبالتالي زيادة الصحة النفسية للصم, والتي هي أحد أهداف تعليم الصم.

خامسا: كتابة لغة الإشارة ستعمل على تقليل المعاني الضائعة في الترجمة من اللغة المنطوقة إلى لغة الإشارة أو من لغة الإشارة إلى اللغة المنطوقة. كما أننا من خلال كتابة لغة الإشارة نستطيع مقارنة لغات الإشارة المختلفة في العالم. وحتى في المنطقة الإقليمية أو الوطنية, وتساعد على تقليل الترجمات اللازمة من لغة إشارة إلى أخرى. فإذا أردنا على سبيل المثال ترجمة كلمة معلم من لغة الإشارة الأمريكية إلى لغة الإشارة العربية فإننا سنترجم إشارة معلم إلى كلمة معلم باللغة الانجليزية، ثم نترجم هذه الكلمة إلى كلمة معلم باللغة العربية, ثم نترجم كلمة معلم العربية إلى إشارة معلم بلغة الإشارة العربية.

أما إذا كانت لدينا لغة إشارة مكتوبة فإننا سنستطيع ترجمة لغة الإشارة الأمريكية مباشرة إلى لغة الإشارة العربية مباشرة. إن تقليل المعاني الضائعة وبالتالي زيادة المعاني المكتسبة أثناء عملية التعلم يجعلنا نتوقع تحسن مستوى التعلم والمحصول اللغوي وذلك أن التعلم يرتبط بشكل كبير بمعدل المعاني المكتسبة في المراحل العمرية المختلفة.

سادسا: إنّ كتابة لغة الإشارة ستساعد على نقل المعلومة من الأفراد الصم ومستخدمي لغة الإشارة إلى الآخرين من السامعين الذين يهمهم استخدام لغة الإشارة لسبب أو لآخر كأفراد الأسرة أو المعلمين أو الأصدقاء والأقارب وبخاصة إذا كان هناك مشكلة عندهم في متابعة الأفراد الصم المحترفين في لغة الإشارة والذين يؤدونها بسرعة مما يجعل أمر متابعة لغة الإشارة من الصعوبة بمكان على الآخرين. وبالمقابل يمكن الأفراد الصم من الحصول على المعلومة بلغة الإشارة إذا كانت مكتوبة وعدم الاعتماد على الآخرين خصوصاً إذا كانت مهاراتهم في لغة الإشارة محدودة. وهذا سيزيد تعاون آباء الطلاب الصم مع المدرسة ومتابعة تحصيل أبنائهم.

سابعا: إنّ المدافعين عن كتابة لغة الإشارة يقولون إنها ستساعد على سد ثغرة في تعلم قراءة وكتابة اللغة المنطوقة. وهي أساس التحصيل الأكاديمي. وهذا سيعمل على تغيير الصورة القاتمة التي ترسمها الدراسات حول تعليم الصم.

جدل واسع

لقد أثارت كتابة لغة الإشارة جدلا واسعا منذ اليوم الأول لظهورها في عام 1974 حتى بين الأفراد الصم أنفسهم حيث أثارت موجة من الرفض والاستهزاء وهذا ما يحدث (تاريخياً) للأفكار الجديدة، وليست كتابة لغة الإشارة استثناء من ذلك والأسباب وراء رفض كتابة لغة الإشارة تمثلت فيما يلي:

أولاً: إن كتابة لغة الإشارة ستؤدي إلى عزل الأفراد الصم، وكأن الصم غير معزولين على أرض الواقع، ومن هنا فإن كتابة لغة الإشارة لن تزيد الطين بلة.

ثانياً: إن الأصم لن يستطيع تعلم اللغة المنطوقة. وهنا نؤكد على استخدام كتابة لغة الإشارة كوسيلة لزيادة تعلم اللغة المنطوقة وهذا ما أثبتته الدراسات العلمية.

ثالثاً: إن الناطقين لن يتمكنوا من تعلم كتابة لغة الإشارة. والحقيقة أن الناطقين المهتمون بلغة الإشارة سوف يتعلمونها لنفس السبب الذي لأجله تعلموا لغة الإشارة.

رابعاً: إن النظرة الأولى تعطي انطباعاً قوياً بأن كتابة لغة الإشارة أمر صعب ومعقد لن يستطيع أحد استخدامها وهي تشبه الكتابة الصينية والكتابة المصرية القديمة (الهيروغليفية).

وهنا نؤكد على أن تعلم كتابة لغة الإشارة أمر يستغرق وقتاً قصيراً جداً أقصر مما يتخيله قارئ هذا السطور وذلك من خلال تجربة عايشتها بنفسي.

هذا بالنسبة لكتابة لغة الإشارة في العالم.. فهل تجد كتابة لغة الإشارة قبولاً في العالم العربي؟.. أم أننا نحتاج أن نتسول دعم هذه الفكرة؟

* أستاذ التربية الخاصة المساعد في كلية المجتمع - الرياض


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة