Al Jazirah Magazine Tuesday  13/02/2007 G Issue 206
تقارير
الثلاثاء 25 ,محرم 1428   العدد  206
 

قال إنه بدد عمره في أوهام الشيوعية
مذكرات أمريكي تاه في الصين 30 عاماً

 

 
* إعداد - أشرف البربري:

بالطبع كان التقرير الذي نشرته صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) الأمريكية عن ذلك الأمريكي الذي تخلف وراء جيش بلاده في الصين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ليصبح أحد قادة الحزب الشيوعي الصيني قبل أن يتحول إلى رجل أعمال مفاجأة للكثيرين.

فلا يعرف الكثيرون حكاية هذا (الأمريكي التائه) في الصين ولكن الصحيفة الأمريكية نشرت تقريراً موسعاً عنه. تقول فيه، عندما أراد سيدني ريتنبرج أن يلخص رؤيته للحياة وللعالم قال: (لم أكن أقصد البقاء في الصين. بل لم أكن أقصد السفر إلى الصين). والحقيقة أن ريتنبرج يعرف تماما أسطورة الثورة الشيوعية الصينية ليس كشاهد عيان ولكن كمشارك فيها وإن كان في الجانب الخطأ من التاريخ في أغلب الأحيان.

الحقيقة أن عدداً قليلاً جداً من الناس الذين يمكنهم إغلاق عيونهم ويتذكرون قادة الثورة الشيوعية من أمثال ماو تسي تونج وتشو إين لاي في كهوف يانان المغطاة التي تضيئها مصابيح الزيت. ولكن ريتنبرج يستطيع ذلك. فقد كان الشاب الأمريكي اليهودي المولود في مدينة شارلستون بولاية ساوث كارولينا الذي يؤمن بالقيم المثالية قد ظل في الصين التي كان قد وصلها كجندي في صفوف قوات الحلفاء أثناء الحرب العالمية الثانية..

وقد وفرت له السيدة صن ياتسين زوجة الزعيم الصيني ماو تسي تونج وظيفة عامل إغاثة في بعثة الأمم المتحدة بالصين. وبعد ذلك أصبح عضواً في الحزب الشيوعي الصيني وسرعان ما أصبح كادراً حزبياً رفيع المستوى وأصبح مترجماً للزعيم ماو ثم انضم إلى إدارة الإذاعة الصينية وتزوج مرتين ومارس السياسية كيساري متطرف. وقد زج به في السجن مرتين الأولى من جانب الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين والثانية من جانب الزعيم الصيني ماو تسي تونج. ولم يخرج من السجن إلا بموت الرجلين.

وفد ترك ريتنبرج الصين بعد 35 عاماً وذلك في عام 1980م حيث أصبح أكثر حزنا وأكثر حكمة في الوقت نفسه ولكنه أصبح كسير النفس ويحمل حباً كبيراً للشعب الصيني ولغته.

واليوم أصبح هذا الرجل موظفاً في شركة استشارات تعمل بين مدينة سياتل الأمريكية والعاصمة الصينية بكين. ويقول ريتنبرج: إن الصين اليوم لم تعد نفس الصين التي غادرها منذ نحو 26 عاما.

فقد ولت الأيام التي لم تكن المياه الساخنة ولا المدافئ متاحة في منازل الصينيين. فالصينيون يشعرون بالفخر لارتفاع مكانتهم وأصبح صوت بلادهم أكثر احتراماً.

مخاطر كامنة

ولكن صعود الصين ينطوي على مخاطر كامنة وبخاصة بالنسبة للصين نفسها على حد قول ريتنبرج. فالصين اليوم تقف في مفترق طرق بين الحياة والموت. فبعد مرور سبعين عاماً على بدء (المسيرة الكبرى) في مستهل الثورة الشيوعية الصينية مازالت المشكلة الكبرى التي تواجه الصين هي غياب القيم الروحية والأخلاقية وهو السبب الذي دفع الرئيس الصيني الحالي هو جينتاو إلى إطلاق برنامج (المجتمع المتناغم).

ويقول ريتنبرج (هناك الكثير من المفكرين غير السعداء وأعضاء الحزب القدامى والشباب الذين يحملون أفكاراً مثالية وفلاحين ومزارعين. كل هؤلاء يكرهون الفساد الجديد وإعلاء قيمة المال على هذا النحو المحزن.. ولكنهم لا يملكون السلطة ولا القوة للتعبير عن قناعاتهم.

وبالرغم من أن هذه الفئة تبدو صابرة وسهلة الانقياد فإن احتمال انفجار غضبها يظل قائماً بقوة. ولذلك فما هو المعنى بالنسبة للصين عندما تقيم اقتصاداً قوياً وتخسر روحها؟).

ومنذ أن ترك ريتنبرج الصين انطلقت روحه في آفاق واسعة من البحث المكثف وراء حلمه المفقود. وقد اعترف الرجل بأخطائه وبسذاجته وبغبائه وبخاصة في حماسه المفرط للثورة الثقافية التي قادها ماو تسي تونج في الصين والتي كانت عبارة عن حملة من الإرهاب والخوف خلال الفترة من 1965م و1975م. ويقول عن تلك الفترة: لقد كان ذلك زمن (جنون الأيديولوجيا عندما كان الناس يجمدون قلوبهم ويقتلون كل مشاعرهم الإنسانية باسم عمل الخير).

وقد ولد ريتنبرج لأب يعمل بالمحاماة في وقت لم يكن تتم فيه إدانة أي رجل أبيض في ولاية ساوث كارولينا بتهم اغتصاب أو قتل شخص أسود لأن البيض في ذلك الوقت لم يكونوا ينظرون إلى السود في أمريكا كمخلوقات بشرية. ويقول ريتنبرج (شعرت في ذلك الوقت بأن العالم بصورته تلك غير مقبولة. وعندما جئت إلى الصين اعتقدت أنهم سيقدمون لي الإجابة التي أبحث عنها وعندما قامت الثورة الثقافية تصورت أن هذا هو العالم الحقيقي الجديد).

ويقول ريتنبرج: إن الصين سوف تطور نظاماً ديموقراطياً ولكن من المحتمل أن يحدث ذلك بطريقتها وفي التوقيت الذي تحدده. ففشل الحزب الشيوعي في تحقيق وعوده التي قطعها على نفسه عام 1949م وهي الأرض للفلاحين والديموقراطية والعدالة جزء من تراث أيديولوجيا الشيوعية الصينية).

ويضيف (أشعر أن الأمر لا يتعلق بماو فقط ولا بكون الحاكم من الأخيار أو الأشرار ولكن الأمر يتعلق بفكرة استخدام الديكتاتورية لتحقيق الديموقراطية والتي لم تؤد إلا إلى مزيد من الديكتاتورية).

وقد أصبح ريتنبرج اليوم يشعر بأن الثورة الأمريكية حققت نجاحا فريدا (فعندما تقرأ ما تعهد به جورج واشنطن وجيفرسون تدرك أن أمريكا اقتربت جدا من تحقيق تلك القيم المثالية التي نطالب بها أكثر مما حققته فرنسا أو الصين أو روسيا).

وقد نشر ريتنبرج مذكراته الأخيرة مسلسلة في صحيفة (شنغهاي إيفننج نيوز) باسمه الصيني لي دونباي تحت عنوان (الرجل الذي تخلف عن الركب). ورغم أنه بلغ الثمانين من عمره مازال ريتنبرج قادرا على الحديث بمهارة وإظهار روح الدعابة والمرح.

يقول رودريك ماكفركوار الأستاذ في جامعة هافارد الأمريكية والمتخصص في الشأن الصيني إن ريتنبرج هو مجرد واحد في طابور طويل ممن يمكن وصفهم (بمساعدي الصين).

ويطلق خبراء الشأن الصيني على ريتنبرج وصف (الطاقة التي لا تنفد) بسبب حجم الخبرات الهائلة التي جمعها عن الصين ومن الصين باعتباره واحدا ممن شاركوا في كتابة قصة الصين الحديثة كأحد أبطالها.

وقد حصل روتنبرج على منحة دراسية من جامعة برينستون الأمريكية ولكنه رفضها لكي يتمكن من دراسة الفلسفة في جامعة نورث كارولينا الأمريكية. ويقول إنه سواء كان رفاقه قتلوا أو ماتوا بشكل غير مباشر أو ذهبوا إلى العزلة فإن روتنبرج لم يتوقف عند أي عقبات تحول دون مواصلة مسيرته إلى نهايتها.

سحر اللغة الصينية

وكان الجيش الأمريكي قد دفعه إلى دراسة اللغة اليابانية للعمل في صفوف قوات الاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية لكنه لم يكن يريد أن يمضي سنوات خدمته في اليابان لذلك اتجه إلى دراسة اللغة الصينية على أساس انه سيعود إلى وطنه سريعا ويلتحق بجامعة ستانفورد الأمريكية لمواصلة دراسته الجامعية بعد انتهاء خدمته العسكرية. كما أن ريتنبرج يتقن اللغات الفرنسية والألمانية واللاتينية. ولكنه سقط في عشق اللغة الصينية.

يقول ريتنبرج إن (اللغة الصينية ساحرة ومازالت أشعر بالإثارة كلما تعلمت حرفا جديدا منها) وعندما وصل إلى الصين قبل أكثر من ستين عاما مع الجيش الأمريكي سقط في هوى الحزب الشيوعي الصيني. وقد التقى بالقيادي الشيوعي الصيني تشواين لاي بعد أن استمع إليه وهو يخطب. وكان لاي في ذلك الوقت الرجل الثاني في الحزب الشيوعي بعد ماو تسي تونج.

وبعد ذلك بعام أو عامين قطع ريتنبرج حوالي 500 ميل في طرق ترابية حتى يصل إلى قيادة الثورة الشيوعية الصينية في كهوف يانان. وقد كانت وظيفته هي صياغة كلمات ماو بلغة إنجليزية مقروءة وترجمة الأخبار العالمية التي تصل إلى قيادة الثورة عبر أجهزة التلغراف على اللغة الصينية. وقد كان ريتبرج يعتقد أنه يساعد في تحرير الصين من السيطرة الاستعمارية. ولكن في عام 1949م وعشية الانتصار الشيوعي في الصين أرسل الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين برقية إلى قيادة الحزب الشيوعي الصيني تأمر بسجن ريتنبرج.

حياة المتناقضات

وبعد رحيل ستالين تم إطلاق سراح ريتنبرج حيث قيل له إنه غير مضطر لأن يعمل بعد ذلك حيث تقرر منحه (فيلا) وراتبا شهريا كبيرا يتيح له حياة مرفهة. ولكن الرجل اختار العودة إلى العمل مرة أخرى في أجهزة الإعلام الحكومية بالصين حيث التقى بزوجته الثانية يولين.

والحقيقة أن حياة هذا الرجل هي حياة المتناقضات. فهو أمضى ست سنوات في السجن. وبعد ذلك قرر العفو عن سجانيه. وقد تغيرت نظرته للعائلة بعد أن كان يعتبر أن الحياة الخاصة غير ذات أهمية. ولكن بعد فترة سجنه الثانية بدأ يشعر أنه لو استطاع إسعاد زوجته الثانية فسيعني هذا أن حياته لم تذهب هباء.

وفي الستينيات أيد مرة ثانية الجناح الأكثر تشددا في الحزب الشيوعي مقارنة بالتيار الذي كان يسمى (عصابة الأربعة) في الحزب.

يقول جاسبر بيكر مؤلف كتاب (أشباح الجوع) عن المجاعة في الصين إن الناس من أمثال ريتنبرج يصفهم أرثر كويستلر بأنهم (ظلام في القمر.. فهم يظلون على ولائهم لأفكارهم رغم السجن واتهامهم باتهامات ملفقة واحتمال إعدامهم. فهم ملتزمون بالقضية بدون الرغبة في الراحة ولا الثراء وهو التزام نادر الوجود. ولكنهم أسرى للأوهام التي تجعلهم يشعرون بالرضا).

وقد ظلت رؤية ريتنبرج لماو معقدة فهو يقول: إن ماو كان يؤمن تماما بأنه يفعل الصواب. وقد كان ماو عبقريا وكاتبا ماهرا فعلى سبيل المثال قدم كتاب ماو (الحرب الطويلة) تصورا واضحا لكيفية تدمير الجيش الياباني أثناء الحرب العالمية الثانية.

في الوقت نفسه كان ماو ذلك (الطفل الفلاح الذي تربى في قرية نائية وتلقى تعليما محدودا ولم يتخلص من الرغبة الطفولية في الثأر والحسد).

ويقول بيكر: إن الكثيرين ممن انتموا إلى الحزب الشيوعي أو مازالوا مترددين في قول الحقيقة عنه. فماو بالنسبة للشعب الصيني أسطورة لا يمكن الاقتراب منها.

ويقول ريتنبرج: إن حلمه بتحرير الصين كان خطأ. فالصين لديها أزمة روحية. ولكن تاريخها عبارة عن حلقات من الانكسار والنهوض. ويضيف قائلا: وقد (انبهرت بحجم الطيبة والبراعة في الشعب الصيني.. فلم يكن هناك أي أمة أخرى استطاعت البقاء في نفس المكان على مدى أكثر من 2000 عام وتتحدث بنفس اللغة وعلى نفس الأرض وبدون أن تدمر نفسها أو تدمر الآخرين. وخلال 20 أو 30 عاما سوف تطور الصين القانون الأخلاقي الجديد لها وتعثر على مسارها الجديد وتصلح حضارتها).

ويقول ريتنبرج عن الفترة التي قضاها في غياهب السجن: في العام الأول لم يكن هناك أي ضوء في نهاية النفق. وبعد ذلك توقفت عن التفكير في احتمالي إعدامي في أي لحظة.. ولم يكن ذلك هو قضيتي. ولكن قضيتي كانت كيفية الحفاظ على سلامتي العقلية. فقد كنت تطرح على نفسك الأسئلة الأساسية مثل هل حياتي تستحق؟ وما هي السعادة في مواجهة تلك السعادة الحيوانية؟ فلكي تبقى على قيد الحياة يجب أن يكون لديك هدف واضح. فإذا كانت حياتك بلا هدف لن تتمكن من البقاء حيا في زنزانة مظلمة. عليك أن تحافظ على نفسك. فقد كانت هناك سلسلة من المعارك الصغيرة التي عليك أن تخوضها وتكسبها لكي تبقى على قيد الحياة. وفجأة حدث شيئا لم أستطع منع نفسي من التفكير فيه على مدى أكثر من 30 عاما تالية).

ويضيف أن (فرصة الخروج من السجن كانت بنسبة 50 في المائة. ولم يكن مسموحا لي بالكلام. وقد بدأت أفكر في أنني لو كتب لي الخروج من السجن فلن أكون إنسانا طبيعيا. فقد كنت أشعر بالضياع وبالخيانة من جانب الشيوعيين الذين أعطيتهم الكثير.. ولكن صوتا ضعيفا بدأ يتردد داخلي. وبدأت أسأل نفسي متى بدأت مشاعر الخوف لدي؟ ولم أتمكن من العثور على إجابة لأنني لم أعرف فعلا المرحلة التي بدأت أشعر بالخوف فيها).

وبدأت في ذلك الوقت أقتنع بوجود قوة روحية في الإنسان وانه في لحظة ما تجد هذه القوة تعمل من أجل البحث عن مصادر جديدة للطاقة والمقاومة لديك حتى تتجاوز أي أزمة. وقد تذكرت قصيدة للشاعر إيدوين ماركهام ربما كانت عمتي أو شقيقتي الكبرى قد قرأتها لي في سن صغيرة عندما كنت مريضا في ساوث كارولينا وكانت أبياتها تقول:

لقد رسمت دائرة وألقى بي خارجها

والمهرطق والمتمرد شيء يمكن أن يطفو

ولكن الحب هو تلك المهارة التي تتيح لي الانتصار

وقد ساعدتني هذه الأبيات كثيرا في تحمل معاناة السجن والعزلة.

وذات صباح وأنا في السجن سمعت صوت يقول: (زوجة ماو وعصابة الأربعة) ساعتها شعرت بالسعادة لأنني أدركت أن دخولها السجن يعني خروجي منه. وقد كان.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة